21‏/05‏/2024

قراءة انطباعية في رواية دفاتر الطوفان

 

صدرت رواية دفاتر الطوفان للكاتبة الأردنية سميحة خريس في العام 2003، بطبعتين: أردنية عن أمانة عمان، ومصرية عن الدار المصرية اللبنانية في القاهرة، وفي العام التالي لصدورها فازت بجائزة أبي القاسم الشابي في دورتها التاسعة عشر، تُرجمت الرواية إلى اللغتين الإسبانية والألمانية، وحولت إلى مسلسل درامي من إنتاج المركز العربي للإنتاج الإعلامي في الأردن، في العام 2009 صدرت طبعة جديدة للرواية عن دار نارة في 222 صفحة من القطع المتوسط، وهي النسخة التي وقعت تحت يدي.

قسّمت الكاتبة البناء الموضوعي للرواية لأحاديث تمثل الأشياء والمستلزمات التي اقتضت حاجة الناس توفرها في عمان عام 1937/  1938، نقلت لنا في كل حديث سيرة التعرف عليه وطرق استخدامه وأهميته، ففي حديث الحرير قالت: "أن يكتب تجار الأقمشة مثل بدير أو الحمصي أو أبو قورة في دفترهم عني بأني كريب، فهذا لا يغتفر، على الأقل لرجال خبراء وذواقة أمثالهم... عندما وصف الأعراب كل ما يشف بالحرير، جانبوا الصواب، الحرير كيان رقيق، ولكنه ثابت وواضح لا يحتمل اللبس، لا يشف ولا يصف، هو كينونة بذاته، يمنح لابسه صفاته..." (ص: 5).

في حديث الحبر قالت: "أحبُ وقفت رفعت الصليبي المهذبة عند رف الكتب، أحب خطه عندما يبتاعني، ويدبج بي قصائده السرية التي يتغنى بها بالخمر أسوة برفيقه شاعر الخمريات والحب وكشف المستور من حكايات الدور والقصور، مصطفى وهبي التل..." (ص: 34، 35). ولأن الحبر رفيق المتعلم تدخل الكاتبة متسللة بانسياب لفنون السياسة وتعرج لقضية إدارية فرضتها السياسة على إمارة شرق الأردن، وهي قضية تعيين الأجانب في وظائف الدولة، قالت على ألسنة المحتجين: "مش هيك، بس المسألة ما بدنا نخلص جامعاتنا ونرجع من الشام والا بيروت ونقعد نتصفن بالقهاوي، وهم بيعينوا بالوظايف كل من هب ودب من بره" (ص: 36).

الحب والعاطفة والمشاعر حاضرة في الرواية، ففي حديث الحب، خلقت من الخوف والقلق والاضطراب مفتاح الحديث، لما يدور في أذهان الناس من هموم ومشاغل، قالت: "راح يشرح لها التوتر الحادث بين العسكر والإنجليز وحزب اللجنة الوطنية الذي ينتمي إليه، حدثها عن أناس يبيعون الأرض لليهود، وعن تجار يتعاملون مع الصهاينة، وعن ترتيبات تجري لإقامة معرض اقتصادي عربي يرد على مؤتمر الفئة الأخرى..." (ص: 143، 197). أما في حديث الأمسيات فقد ولجت مباشرة باب السياسة فتحدثت عن التغييرات الحكومية، ووصول توفيق أبو الهدى لرئاسة الوزراء، وتولي أحمد السقاف منصب قاضي القضاة، وعلى ألسنة أفراد المجتمع تساءلت: "هل ستحارب الحكومة الجديدة احتكار السلع... ولكنها تسالي أمسيات عمان، يضعونها مع حبات الكستناء فوق مواقد الفحم" (ص: 166). وفي حديث الأمسيات أيضاً، كانت فلسطين حاضرة في الرواية، كما أنها حاضرة في قلب كل أردني، قالت: "ولم يعد لعمان إلا حكاية واحدة يقال لها فلسطين" (ص: 175).

في حديث الرحالة أبدعت في نقل ما حبروا في وصف عمان، من ذلك قول أحدهم: "محاطة عمان بالتاريخ من مختلف الجهات، مكثف فيها كقطرة مسك في المكان..." (ص: 181)، وقول قائلهم: "أهل عمان القادمون من كل مرافئ الدنيا، يتباينون في مشاربهم ومطاعمهم، يتوافقون في أحلامهم ومطامحهم..." (ص: 191).

نجحت الكاتبة سميحة خريس في كسر رتابة الشعور بالملل في رواية دفاتر الطوفان، وجعلتها تجربة غنية تُثري معرفة القارئ بتاريخ عمان، وتُعرفه على أسرارها، ونفضت الغبار عن فسيفساء اللوحات الفنية التي صورت مشاهدها اليومية، ولأن البيئة العمانية متعددة الثقافة لتعدد أجناس ساكنيها واختلاف أصولهم ومنابتهم، جاءت لنا بحكايات متعددة مثلت هويات هؤلاء السكان وتعلقهم بعمان، واستيعاب عمان لهم. فمثلاً تضمنت الرواية قصة عشق من بطولة محامي شاب اسمه عبدالرزاق الشعيبي، مثل شباب جيله الذين حملوا هم التعاون مع الثوار الذين جعلوا من شرق الأردن قاعدة انطلاق لتحركاتهم، فقدموا أرواحهم فداء للقضية الفلسطينية، وحق الدفاع عن أرضها من العدو المغتصب، الذي يحظى بدعم ومساندة الإنجليز، الذين يفرضون انتدابهم على إمارة شرق الأردن، وبطلتها فتاة مسيحية اسمها أسمهان، تعمل ممرضة قدمت من بيت لحم ليستقر بها المقام في عمان، انتهت قصة العلاقة بينهما بالزواج الذي فرضته البيئة العمانية المحافظة.

صوّرت رواية دفاتر الطوفان جوانب متعددة من الواقع الاجتماعي في عمان زمان، فكانت شخصية الكاتبة سميحة خريس بثقافتها ووعيها حاضرة في الرواية، مثلت الأشياء والأشخاص والأحداث، كانت حريراً وحلقوماً وحبالاً وسكراً، وعطراً وقطاراً وكانت المطر، كانت شيئاً يدخل البيوت ويلامس الجسد ويخالط الروح، تحدثت عن القراميل، والشيالات، والقصدير، والأساور، تحدثت عن الإنسان والمكان والزمان، تحدثت عن السياسة، تحدثت عن الكاريزما الشخصية، تحدثت عن النظام، تحدثت عن المعارضة، تحدثت عن الثوار، تحدثت عن الصداقة والجوار، وتحدثت عن رعونة الأبناء وحب المراهقين، وعن ذكر الرحالة لعمان، وعن الدرك وفريدرك بيك وأبي حنيك، والأمير والقطروز، والوزير والشاعر، وعن الخوف وعن الحب، واختتمت بحديث اليوم، فهي رواية تمثل دائرة معارف مدينة عمان في ثلاثينيات القرن الماضي.

رواية دفاتر الطوفان من الأعمال الأدبية العربية التي تُساهم في الحفاظ على التراث الثقافي للأردن، وتقدم معلومات مهمة عن تاريخ مدينة عمان، وعادات سكانها وتقاليدهم، وتُجسّد التنوع الثقافي المميز للمدينة في تاريخها الحديث، وتُعد الرواية أيضاً عملاً أدبياً إبداعياً يثير انتباه القارئ بدقة وصف التفاصيل بأسلوب شائق ولغة سهلة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق