21‏/05‏/2024

قراءة انطباعية في رواية المكناسيّة

 

في عام 2021، أصدر الكاتب الجزائري عبد الغني صدوق روايته المعنونة بــ "المكناسيّة" عن دار ميم للنشر، طرح خلالها حواراً موضوعياً متشعباً ساعد في تصوير مشاهد عديدة، مثل حالات التناقض بين الواقعية والمثالية التي عاشها المجتمع الجزائري بعد التحرر من الاستعمار الفرنسي، فكان هذا التنوع الموضوعي في السرد الروائي شاملاً للأبعاد التربوية والجوانب الاجتماعية والسلوكية الفردية.

إلياس بطل الرواية، وهو فتى في العقد الثاني من عمره، فُصِلَ من المدرسة لضعف تحصيله العلمي، ليجد نفسه تائهاً لا يدري ما يعمل، فأصبح منحرف السلوك، بدأ بالتدخين، ثم جذبه أصدقاء السوء لتعاطي الحشيش، فانزوى عن أسرته في ناحية مهجورة بالقرب من منزلهم، لم يجد التوجيه التربوي أو النصيحة الصادقة لتسوية سلوكه، وتجنُب طريق الضياع، لم يُحمّل الكاتب والد إلياس مسؤولية تردي سلوكيات ابنه بالمطلق، ملتمساً له العذر لأن ظروفه المعاشية والفقر الذي يعانيه وانشغاله بالدباغة والزراعة لم يترك له الوقت الكافي لمتابعة ابنه، أو مراقبة سلوكياته حتى تفاقمت المشكلة، في حين أن أسلوب تعامله مع ابنه اتصف بالقسوة والعنف، وفتور العاطفة الأبوية تجاهه، قال له مرة: "أن العاطفة التي يكنّها للماشية أجيش بكثير من العاطفة التي يكنّها له..." (ص: 62).

لم يقتصر التعامل القاسي مع إلياس على والده، بل إن أعمامه كان لهم دور في تمرده لشدة ما لاقاه منهم من تعنيف، تتعاظم العقدة النفسية عند إلياس بعد طلاق أخته، سيما أن أمه أيضاً كانت مطلقة قبل زواجها من والده، لذلك ارتفع صوت الكاتب معبراً عن شعور إلياس قائلاً: " تخَاصَم سراً مع الزمان الذي حكم على أُمّه وأخته بالطلاق، ولو خرج الزمان في ثوب آدمي لارتكب عليه جُرماً" (ص: 70). وهنا نستنتج مقصد الكاتب الذي ينبه إلى ضرورة إدراك خطورة غياب التوجيه التربوي والأسري على سلوكيات الشباب، ودور الظروف الاجتماعية والاقتصادية في تفاقم مشكلاتهم.

في الحديث عن البيئة الاجتماعية التي تشكلت فيها شخصية إلياس، تمكن الكاتب من خلال سرديته الروائية أن يُدمج معه القارئ في قصة عائلة ممتدة اختلفت تطلعات أفرادها، وتباينت طموحاتهم في تعاطيهم مع واقعهم المعاشي اليومي، وسلوكياتهم الاجتماعية المتأثرة بالموروث الثقافي والعادات والتقاليد الاجتماعية والتعاليم الدينية الإسلامية، مع إلتفاتة في متن الرواية لفارق الأسلوب المعيشي لمواطني القرى والتجمعات السكانية الصحراوية عن سكان المدن، على اعتبار أن الحياة في المدينة أكثر استقلالاً للفرد عن مجتمعه، وأخف ضوابط لسلوكياته لمساحة الحرية الفردية التي يحظى بها الشخص في المدينة، قياساً على ما يفرض على الفرد من ضوابط ورقابة صارمة تخنق أنفاسه في القرية، قال في ذلك: "... لعله سئم من وجوه العباد، أولئك الذين أقوالهم في الدين مُلِمّة بأعقد المسائل، وأفعالهم في الخلوات تبرّأ من وسوستها إبليس، سمع ورأى أن أهل وهران وما أصابهم من الحضارة الغربية، خالون من النفاق، أصحاب الحانة يسيرون إليها في وضوح النهار، وأصحاب المسجد مواظبون عليه شكلاً وروحاً" (ص: 156، 157). وقال على لسان الشيخ مولاي عن واقع أهل المدينة: "حتى وإن كان للنفاق حُظوة، فلا تكاد تظهر على أهله؛ لأن إتقان العربدة والصلاة حُبّان قلّما يجتمعان في قلب..." (ص: 264). وفي سياق الحديث عن تأثير البيئة في سلوكيات الأفراد أشارت الرواية إلى بعض الشعائر الصوفية التي هام بها أفراد المجتمع، واعتبروها زاداً روحياً مهماً في تخفيف ضغوط الحياة، "تمتلئ رحبة القصبة بالضيوف، في زيارة الولي الصالح مولاي علي الشريف، هناك تتناوب حِلَق البارود على احتلالها، وتعرض كلّ فرقة فنيَّاتها، فيتماوج الراقصون ببنادقهم زهواً؛ بفعل نغمة الطبول والمزامير، وكثافة المتفرجين المحيطين بهم مِن كلِّ جانب" (ص: 49).

في محور الحديث عن العزيمة والهمة وأصالة المعدن البشري، أثبت الكاتب في سردية الرواية أن الفتى إلياس رغم الظروف الصعبة التي مر بها إلا أنه وقف مع نفسه وقفة تأمل، عاد بعدها إلى طريق الرشاد، وتميز عن أقرانه بالجهد والمثابرة، فاستطاع أن يتخلص من سلوكياته السيئة المنحرفة، ويثابر على نفسه، ويشغل وقته في العمل، حتى أصبح أكثر أفراد العائلة ثراءً، وتمكن من شراء سيارة، ومنزل في المدينة، وعند تعرضه لإغراءات النساء خلال زيارته المدينة أثبت أنه شخصية صلبة لا تنجرف لمستنقع الرذيلة، في حين كانت المفارقة في الرواية أن رضوان ابن عمه الذي كان متفوقاً في دراسته، وذهب إلى المدينة لمواصلة دراسته الجامعية، رغم مداومته على حضور محاضراته في الجامعة والاهتمام بمستواه العلمي إلا أنه لم يتمالك نفسه أمام إغراءات النساء في المدينة، فأصبح من رواد منطقة درب اليهود "جاهدَ على أن لا يطأ درب اليهود ليُعاقر النساء، وفي نهاية الأسبوع لا يستفيق إلَّا وهو خارج منه إلى الدوش" (ص: 135). أما خليفة عم إلياس، الذي كان عاطلاً عن العمل، ما إن جاءته فرصة الوظيفة، إلا وانتهى به الحال في السجن، بعد أن تورط بعملية اختلاس. ينهي الكاتب المفارقة على لسان عبدالودود عم إلياس ناصحاً ابن شقيقته بقوله: "وضربَ له المثل برضوان ورشيدة اللذين علا شأنهما بالقراءة، سيتخرَّجان عمَّا قريب، سيفخر بهما أناس ويحسدهما أناس وإن استطبوا عندهما، صحيح أنَّ إلياس تجلَّد وارتقى لكن ليس كل الناس مغامرين، والمادة ليست حظًا، بل الفكرة الجيدة والعمل الدؤوب مع الإخلاص" (ص: 247)، ومن نصائحه أيضاً قوله: " في كلِّ إنسان عبقرية -على الأقل- لا يمكنه أن يكتشفها إلَّا مِن خلال الناس" (ص: 250).

حَمَلت الرواية أحاسيس النِّقْمَة المبطنة على الاستعمار الفرنسي للجزائر، وللجزائريين الحق في ذلك؛ لأن الاستعمار الفرنسي رسّخ عناصر الفرقة والطبقية بين أفراد المجتمع، التي بدورها أسهمت في تمزيق النسيج الاجتماعي الجزائري، وطغت على كل القيم التي تعود في جذورها للعادات والتقاليد المتوارثة، أو لتلك القيم والعادات التي اكتسبها المجتمع من الدين الإسلامي، الذي دعا إلى المساواة وحصر التنافس والتفاضل الاجتماعي بالتقوى، لأنها كلما تعاظمت في نفس الفرد زادته انحناء ورأفة ولطفاً ببقية أفراد المجتمع، نلحظ هذه النِّقْمَة من خلال سردية الرواية لموقف إمام المسجد ذي الأصول البيضاء، الذي اعترض على إمامة رجل من عرق أسمر للمصلين في المسجد الذي يتولى فيه مسؤولية الإمامة والخطابة، ورفض لاحقاً أن يزوجه ابنته، وأطلق الكاتب على لسانه قوله: "إذا طمع أسمر بالمحراب فغداً سيطمع بالصعود إلى المنبر.... لكن ما أخشاه يوماً أن تنتصر الديمقراطية الحقّة في هذا البلد، وتتسع الحُرّيات وتُقبر سطوتنا التي أمدنا بها الاستعمار..." (ص: 177). وفي موقع آخر قال على لسان مولاي: "لا شيء يُهدّم عمارة جاهٍ هندستها فرنسا في الصحراء أكثر من إمامة السُّمْر في المساجد الكبيرة..." (ص: 195). ووصف الاستعمار الفرنسي قائلاً " فرنسا أخبثُ استعمار في العالم، فرنسا الاستئصالية زرعت الأحقاد بطُرقٍ ذكيَّة، وأنبَتتْ في القلوب كراهية لن تنقلع إلّا بقيام الساعة!" (ص: 247).

قدمت رواية "المكناسيّة" بانوراما مُكثفة للحياة في الجزائر بعد الاستقلال، مُسلطة الضوء على التناقضات والصراعات التي واجهها أفراد المجتمع، بأسلوب أدبي جميل، وقدمت النصيحة التربوية بطريقة الانعكاس الجمالي للسلوك الفردي والقبول الذاتي بالنتائج المكتسبة، لا بطريقة الوصاية الأبوية أو الترهيب العقابي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق