21‏/05‏/2024

قراءة انطباعية في رواية أكلة لحوم البشر

 

من أرحام المصائب تتوالد الأحداث الجسام، ومن الثوابت العقائدية ذات الجذور الدينية، أو الفكرية، أو التعليمية، أو الوظيفية، تتفرع صنوف السيادة المطلقة. من هنا تأخُذنا رواية أكلة لحوم البشر في سرديتها لتضعنا وجهاً لوجه أمام واقعة دموية أرتكبها المأمور بأمر الآمر، فأفقدته صوابه، وهبطت به من شُرفة المهابة، إلى حضيض التشرد والضياع، رواية كتبها الكاتب المصري حسام أبو سعدة، ونشرتها دار ابن رشد في القاهرة عام 2017، جاءت في مئة وعشرين صفحة من القطع المتوسط، تحكي قصة وتترُك عبرة، كُتِبت حروفها على هامة الشرف، مِدادُها الدّم، وصوتها الألم.

شخصية الرواية الرئيسة ضابط شرطة برتبة نقيب في الأمن المركزي (عماد عبدالله)، شاركه بطولة أحداث الرواية قائده الميداني ضابط شرطة برتبة عميد (وليد البهنساوي)، وهو المعلم والقائد والأب الروحي ومثاله المحتذى في سلوكيات الانضباط والعمل الشرطي، وحتى تبقى الروح الإنسانية قادرة على الحضور ومواجهة الظلم والقهر والبطش في سياق الرواية، جاء توظيف أدوار الجنس اللطيف في أحداثها من خلال شخصية الطالبة الجامعية نهال، والفتاة الحسناء شاهيناز، والطفلة صابرين، والاستعانة بشخصيات ثانوية وفرت الحركة والتفاعل في سردية الرواية.

صورت الرواية الحالة العامة التي كانت سائدة في الجمهورية العربية المصرية، التي كانت تدار فيها الأمور الداخلية بقبضة أمنية، مكنت ضباط الأمن من بسط نفوذهم وصناعة المكانة الشخصية لهم بين أفراد المجتمع بالتخويف والرعب، وترسيخاً لهذه المكانة، غرس كبار الضباط هذه البذرة في نفوس الضباط الجدد، قال الكاتب على لسان العميد البهنساوي مخاطباً التلميذ العسكري وليد: "يجب أن يَنظُر الناس لضابط الشرطة على أنه أسد. يجب أن يتعاملوا مع الشرطي بنفس هيبة واحترام الأسد" (ص: 19).

تفرعت خيوط سردية الرواية مع انطلاق أحداث ثورة 2011، التي جاءت بمطالب تغيير نظام الحكم، والخروج من نفق الظلم والاستعباد، تدخل الأمن المركزي، وصدرت الأوامر بفتح النار على المتظاهرين وسحق الثورة والثوار، أصدر العميد وليد البهنساوي أوامره التي تلقاها من القيادة العليا، تردد ضباط الميدان وصغار الضباط والشرطة، بادر العميد بإطلاق النار لحث الضباط والشرطة على الاقتداء به، لكن كانت أول رصاصة موجهة من البندقية التي انتزعها من يد أحد عناصره تندفع إلى الأمام مع خط نظره حتى استقرت في جسد ابنه الذي كان يشارك الثوار في تظاهرتهم السلمية، فقد العميد صوابه، وهام على وجهه، بهذه الحادثة بدأت رحلة التقصي وراءه من قبل النقيب عماد، لكشف سلوكه الوظيفي ومصيره الغامض، من خلال التفاعل مع أحداث قصة اختفاء العميد البهنساوي، استطاع كاتب الرواية أن يخلق لنا النماذج التي أسس عليها فكرة الرواية، وعبّرت عن مرارة الواقع الذي كان نتاج شعور العظمة واستغلال المنصب والنفوذ.

 مثلت الحكايات التي تضمنتها الرواية عن سيرة العميد البهنساوي رمزية عن سلوكيات كبار ضباط الشرطة، الذين استمدوا جبروتهم وتسلطهم ونفوذهم في المجتمع من المراكز الوظيفية التي منحتهم إياه رتبهم العسكرية الكبيرة في الأمن المركزي، بدأت حكايات العميد البهنساوي بتلفيق قضايا السكر والعربدة وعبادة الشيطان، لشاب في مقتبل العمر، انتقاماً من والده الذي انتقد التزوير في إجراءات ونتائج الانتخابات العامة، بصفته مستشاراً ومراقباً على العملية الانتخابية، انتهى الصراع بين الرجلين بقضاء الابن مدة المحكومية، ونقل العميد البهنساوي من مباحث العاصمة إلى الأمن المركزي، هذه الحادثة مثلت حوادث التهديد والتجبر التي مارسها ضباط الأمن بحق من وقف أمامهم أو أمام أسيادهم، ليقذفوه وراء الشمس.

كشفت رحلة البحث عن العميد قصص الانغماس في العلاقات العاطفية عند تراضي الطرفين على استفادة كل منهم من الآخر، فكانت العلاقة العاطفية للعميد بصديقة ابنه الفتاة الصغيرة الجميلة شاهيناز مثالاً على ذلك، هي تبحث عن السند والقوة التي تتفاخر بها في المجتمع، وهو يتلذذ بجسدها ورغد عيشها. يرى الكاتب أن المرأة من هذا النوع تريد البقاء ملتصقة ببذلة الضابط والاستفادة من نفوذه، لقدرتها على مداعبة عواطفه المتخفية في رداء القسوة الذي يفضل الظهور به، قال على لسان شاهيناز وهي تخاطب النقيب عماد بعد هجرها للعميد البهنساوي: "أنت شاب وسيم، يجب أن تعيش الحياة دون أن تفهمها" (ص: 106). أصابت منه بقولها هذا مقتله، حتى أصبح يدور حول نفسه قائلاً: "إنها على حق. إنها على عكس نهال تماماً التي تحاول فهم الحياة دون أن تعيشها" (ص: 106، 107).

ذكرت شاهيناز بعض المواقف التي صدرت عن العميد البهنساوي خلال علاقتها به، مثلت في رمزيتها سلطة وتجبر واستغلال ضابط الأمن من حوله لتحقيق أهدافه وإشباع غرائزه، في ليلة من الليالي أحضر لها وجبة عشاء، وعندما سألته عن سعر الوجبة الفاخرة قال لها: "أنا لا أدفع الأموال. أنا آكل فقط" (ص: 102)، امتعضت أول الأمر وتساءلت عن حال من تجبر عليه العميد للحصول على هذه الوجبة، أو لعله فرض على أحدهم دفع ثمنها، ثم أدارت وجهها لهذه القضية وأمثالها واستمرت علاقتها به على حالها، حتى عرض لها مشاهد تصويرية عن تعذيبه لحارس الأمن الجامعي الذي نقله للعمل تحت إمرته، وعذبه بأبشع صورة، لأنه تحدث عن العلاقة العاطفية بين العميد وشاهيناز، فكم شخص سيق للتحقيق وعذب ولفق له التهم لأنه تطاول على ضباط الشرطة أو ذكرهم أو ذكر المقربين منهم بسوء.

وعن أحداث الثورة وارتباطها الموضوعي بالرواية، تحدث عن تقصير الأمن المركزي في فرض الأمن وإتاحة الفرصة للمجرمين بالهرب من السجون، وإثارة الذعر والفوضى بين الناس، حتى غدت البلاد غارقة في الفوضى، وتقصيرهم في مساعدة الجيش الذي تولى مسؤولية حماية الشعب، حتى شعر الناس بأن الشرطة تريد أن توصل الناس لمرحلة تكفير الثورة والمطالبة بعودة النظام السابق. بذلك أصبح المواطن بين سندان الأمن المتقاعس، ورحى العصابات ومن شاكلهم من المجرمين الذين توافرت لهم الفرص بأن يبطشوا ويثأروا من المواطنين ومن رجال الأمن، من هنا جاء اسم الرواية، فرجل الأمن المتنفذ ورجل العصابة المتمرد هم أكلة لحوم البشر.

استعرضت الرواية الحالة النفسية التي دخل فيها النقيب عماد، بعد هجمات المواطنين على مراكز الأمن المركزي، وإحراقهم مقارها والاستيلاء على ما فيها من أسلحة، وفرار عناصر الأمن، وبدء فرار الكثير من المساجين من السجون المركزية، وتعرضه شخصياً للتهديد على يد طالب الكيمياء الذي اعتقله بطريقة وحشية، وجاء اليوم لينتقم منه، وازدادت حالة عماد النفسية سوءاً بعد مقتل زميله النقيب كمال، على يد شخص كان قد لفق له كمال تهمة الاتجار بالمخدرات على خلفية حادث سير بسيط، وغيبه بسببها في ظلمة السجن ست سنوات.

في ظل هذه الظروف الخطيرة وبإصرار والدته انتقل مركز عمل النقيب عماد من القاهرة إلى الإسكندرية، الأمر الذي هيئ له فرصة الاختلاط ببعض الأصدقاء والجيران، وفرصة التأمل في ماضيه ومستقبلة، فتحركت مشاعر النقيب عماد وبدأ تأنيب الضمير ولم يعد يقدر أن يوفق بين ما غرسته التعليمات والعقيدة العسكرية في نفسه، وبين ما تتطلبه الجماهير من حياة مدنية تنعم فيها بالأمن والرخاء والعدالة الاجتماعية، بدأ يبحث عن الأعذار التي تدفع رجل الأمن للتعامل بطريقة قاسية مع أفراد المجتمع، ورفض الظهور بمظهر الإنسان الطيب الودود. حتى أصبح يحلم أن يكون بحاراً، أو صياداً، أو أي شيء ممكن أن يكونه أحدا ًمن البشر، عدا أن يكون ضابط أمن، ساندته في هذه المرحلة العصيبة جارته نهال وهي طالبة جامعية تدرس الفلسفة، أراد الكاتب من توظيف شخصيتها إثارة المواضيع بعقلانية بعيداً عن الضوابط العسكرية التي تعلمها وليد في الكلية العسكرية، والتي شكلت أفكاره بقوالبها الجاهزة والجامدة في التعامل الإنساني مع المواطن.

انتهت بنا الرواية إلى أن التخلص من العقلية المتجذرة في نفوس ضباط الشرطة أمراً من المستحيل تغييره، وأن المحاولات العلاجية التي يمكن استخدامها، لا تزيد في مفعولها عن تليين شيء من مشاعرهم تجاه الأشخاص المقربين منهم بحكم العلاقة الأسرية أو العاطفية، لهذا اختُتِمت الرواية بمشهد متصلب ومعاند من النقيب وليد الذي أرغم الطفلة صابرين على الخروج من عزلتها، وصدمة الخوف التي عانت منها نتيجة تعرضها للإصابة في إحدى موجات الانفلات الأمني، التي شهدتها المنطقة، وبهذا الموقف القاسي الذي عالج به النقيب حالة صابرين وضعنا الكاتب أمام النهاية المحتومة التي تربط علاقة رجل الأمن بالمواطن.

قراءة انطباعية في رواية عيون الكرامة لا تبكي

 

في مئة وثمانٍ وخمسين صفحة من القطع المتوسط، استرجع الكاتب الأردني بسام السلمان الفورة الشعبية والبطولات القتالية للأردنيين في معركتهم الخالدة التي أعادت للأمة العربية كرامتها بعد هزيمة حزيران 1967، بحكايات سردية عبرت عن الروح المعنوية العالية التي بثتها الحاضنة الشعبية الأردنية في نفوس أبنائها الجنود، والاستعدادات العسكرية التي جهزتها القيادة العامة للقوات المسلحة الأردنية، على ما كانت تعانيه من ضيق الإمكانات، والخسائر التي تكبدتها في الحرب التي لم يمض عليها عشرة أشهر، وقدرتهم على رفع الروح المعنوية للجنود، وتعاهدهم على النصر أو الشهادة، رواية "عيون الكرامة لا تبكي"، من منشورات وزارة الثقافة الأردنية، صدرت طبعتها الأولى عام 1990، نحركها من مكانها على رف المكتبة، ننفض عنها الغبار، ونعيد قراءتها؛ لأنها تمثل الذاكرة الحية لصور من البطولة والعزيمة والاعتماد على النفس، في مواجهة التحديات، وعدم الركون للوعود التي تتقافز من وراء الحدود مثل كرة مطاطية بيد طفل.

مثلت شخصيات الرواية أطياف المجتمع ومكوناته، الضابط الشهم الغيور على تراب الوطن وماء النهر، الزوجة التي تقف وراء زوجها مستندة عليه وداعمة له ليفوز بالشهادة كي تنزع الأمة عنها ثوب عار هزيمة حزيران 67، أئِمَّةُ المساجد يبتهلون بالدعاء والمصلين يؤمنون، الدكتور في الجامعة يبث في نفوس طلابه الأمل بتغير الحال، وقدرة الجنود الأبطال في دحر الأعداء، طلاب وطالبات الجامعة الذين يحدوهم الأمل ويتطلعون للرقص والغناء فرحاً يوم النصر في ثقة لا يعتريها شك في همم جند الأردن وقائدهم، أمهات أحتضن أبنائهن بقبلة الوداع في رضاً وقلوب تعمرها سكينة الإيمان ويقين النصر أو الشهادة، وفتيات سبقت الشهادة لفرسان أحلامهن يوم زفافهن، وفتيات كان مهر الواحدة منهن أن يعود منتصراً من وادي الأردن.

استقى الكاتب وقائع الرواية من مراجع تناولت بالبحث والتقصي الاستعدادات ليوم اللقاء، ووصف مراحل الاشتباكات العسكرية على أرض المعركة بين الجيش العربي، وقوات العدوان الإسرائيلي، والدور الذي أسهم به رجال المقاومة الذين كانوا في مناطق الاشتباكات مع العدو، وتحدث عن التحديات التي واجهها الجنود وصبرهم حتى ساعة النصر، موظفاً الأسلوب الأدبي القصصي في التنقل بين المقاطع الوصفية والتشويقية لمحاور الرواية الموضوعية، نقل لنا المشاهد من ثكنات الجنود، وميادين التدريب، وحين تحتاج روح القارئ الخروج من محور الحديث عن الحرب وويلاتها، نحى بها نحو الشاعرية وحديث العشاق في مرافق الجامعة، شاعرية كلها أحلام وأماني مصيرها النجاح، إن كان النصر في المعركة، ثم يأخذنا الكاتب في اختلاسه إلى منازل أسر ضباط الجيش وأفراده، فأم تقول لابنها الجندي لا تعد منهزماً، إما منتصراً أو ملفوفاً بالعلم، وزوجة تقول لزوجها إن وافتك المنية سيعيش أبننا يتيماً، لكنه سيكون فخوراً مرفوع الرأس لأنه ابن الشهيد.

أشارت أحداث الرواية إلى الصعوبات التي واجهتها القيادة العسكرية طيلة العشرة أشهر التي استعدوا فيها للمعركة، الملك لم يترك فرصة إلا وهو بين جنوده على الواجهة، يحث ويحفز ويأمر بتوفير كل ما يمكن من مُعِدّات وأسلحة لتعزيز قدرات قوات المواجهة، وولي عهده يتجول في البلدات الحدودية ويُطمئِن السكان، ورئيس الأركان في غاية اليقظة والاستعداد، وقائد المعركة في الميدان مشهور حديثة الجازي، وضع كل خبرته العسكرية لصد العدوان حتى لو تطلب الأمر الاشتباك بالسلاح الأبيض، والضباط أمام الجنود في الصفوف الأمامية، كل ما يستطيع البشر فعله من استعداد وتخطيط قام به الملك الحسين وجنوده، وكانوا فقط ينتظرون بَدْء المعركة ووعد الرب، فكان النصر.

في صباح يوم الخميس 21/03/1968، "الكل كان هناك في ساحة المعركة. إن لم يكن بجسده فبقلبه وعقله" (ص: 152)، وبعد توقف القتال واندحار العدو مساء ذلك اليوم، فاضت العيون بدموع الفرح، إنه يوم النصر، أم الشهيد زغردت، وزوجة الشهيد زغردت، وخطيبة الشهيد زغردت، بكى الأطفال فرقا آبائهم يومها، وسائر الأيام كانوا هم أصحاب المفاخر بنيل آبائهم شرف الشهادة في ميدان الرجولة والبطولة، عَرَضَ الجيش ما استولى عليه من مُعِدّات العدو الصهيوني في شوارع عمان، وبهذا العرض أعلن للعالم أجمع أن جند الأردن هم جند الله، وأن أسطورة الجيش الذي لا يقهر، طمسها ملح البارود الثائر من مدفعية ورشاشات الجيش العربي، بهذا النصر خلعنا ثوب الخزي الذي أُلبسناه يوم السادس من حزيران.

سطر الكاتب في متن الرواية خطاب الملك حسين للزعماء العرب يوم المعركة قائلاً: "فبينما يعمل العدو يداً واحدة وهدفاً واحداً فإنه يعرف حقيقة الإمكانات والطاقات التي وضعتها الأمة العربية قبالته في الميزان، وهو أيضاً يعلم أننا نكتفي بالتحدث عن الصف العربي ووحدته من غير أن نعمل جدياً على بنائه" (ص: 120)، تعلمنا من ذلك اليوم الخالد أن عيون الكرامة لا تبكي، يوم يتولى مهام القيادة والدفاع عن وطننا رجاله.

قراءة انطباعية في رواية المكناسيّة

 

في عام 2021، أصدر الكاتب الجزائري عبد الغني صدوق روايته المعنونة بــ "المكناسيّة" عن دار ميم للنشر، طرح خلالها حواراً موضوعياً متشعباً ساعد في تصوير مشاهد عديدة، مثل حالات التناقض بين الواقعية والمثالية التي عاشها المجتمع الجزائري بعد التحرر من الاستعمار الفرنسي، فكان هذا التنوع الموضوعي في السرد الروائي شاملاً للأبعاد التربوية والجوانب الاجتماعية والسلوكية الفردية.

إلياس بطل الرواية، وهو فتى في العقد الثاني من عمره، فُصِلَ من المدرسة لضعف تحصيله العلمي، ليجد نفسه تائهاً لا يدري ما يعمل، فأصبح منحرف السلوك، بدأ بالتدخين، ثم جذبه أصدقاء السوء لتعاطي الحشيش، فانزوى عن أسرته في ناحية مهجورة بالقرب من منزلهم، لم يجد التوجيه التربوي أو النصيحة الصادقة لتسوية سلوكه، وتجنُب طريق الضياع، لم يُحمّل الكاتب والد إلياس مسؤولية تردي سلوكيات ابنه بالمطلق، ملتمساً له العذر لأن ظروفه المعاشية والفقر الذي يعانيه وانشغاله بالدباغة والزراعة لم يترك له الوقت الكافي لمتابعة ابنه، أو مراقبة سلوكياته حتى تفاقمت المشكلة، في حين أن أسلوب تعامله مع ابنه اتصف بالقسوة والعنف، وفتور العاطفة الأبوية تجاهه، قال له مرة: "أن العاطفة التي يكنّها للماشية أجيش بكثير من العاطفة التي يكنّها له..." (ص: 62).

لم يقتصر التعامل القاسي مع إلياس على والده، بل إن أعمامه كان لهم دور في تمرده لشدة ما لاقاه منهم من تعنيف، تتعاظم العقدة النفسية عند إلياس بعد طلاق أخته، سيما أن أمه أيضاً كانت مطلقة قبل زواجها من والده، لذلك ارتفع صوت الكاتب معبراً عن شعور إلياس قائلاً: " تخَاصَم سراً مع الزمان الذي حكم على أُمّه وأخته بالطلاق، ولو خرج الزمان في ثوب آدمي لارتكب عليه جُرماً" (ص: 70). وهنا نستنتج مقصد الكاتب الذي ينبه إلى ضرورة إدراك خطورة غياب التوجيه التربوي والأسري على سلوكيات الشباب، ودور الظروف الاجتماعية والاقتصادية في تفاقم مشكلاتهم.

في الحديث عن البيئة الاجتماعية التي تشكلت فيها شخصية إلياس، تمكن الكاتب من خلال سرديته الروائية أن يُدمج معه القارئ في قصة عائلة ممتدة اختلفت تطلعات أفرادها، وتباينت طموحاتهم في تعاطيهم مع واقعهم المعاشي اليومي، وسلوكياتهم الاجتماعية المتأثرة بالموروث الثقافي والعادات والتقاليد الاجتماعية والتعاليم الدينية الإسلامية، مع إلتفاتة في متن الرواية لفارق الأسلوب المعيشي لمواطني القرى والتجمعات السكانية الصحراوية عن سكان المدن، على اعتبار أن الحياة في المدينة أكثر استقلالاً للفرد عن مجتمعه، وأخف ضوابط لسلوكياته لمساحة الحرية الفردية التي يحظى بها الشخص في المدينة، قياساً على ما يفرض على الفرد من ضوابط ورقابة صارمة تخنق أنفاسه في القرية، قال في ذلك: "... لعله سئم من وجوه العباد، أولئك الذين أقوالهم في الدين مُلِمّة بأعقد المسائل، وأفعالهم في الخلوات تبرّأ من وسوستها إبليس، سمع ورأى أن أهل وهران وما أصابهم من الحضارة الغربية، خالون من النفاق، أصحاب الحانة يسيرون إليها في وضوح النهار، وأصحاب المسجد مواظبون عليه شكلاً وروحاً" (ص: 156، 157). وقال على لسان الشيخ مولاي عن واقع أهل المدينة: "حتى وإن كان للنفاق حُظوة، فلا تكاد تظهر على أهله؛ لأن إتقان العربدة والصلاة حُبّان قلّما يجتمعان في قلب..." (ص: 264). وفي سياق الحديث عن تأثير البيئة في سلوكيات الأفراد أشارت الرواية إلى بعض الشعائر الصوفية التي هام بها أفراد المجتمع، واعتبروها زاداً روحياً مهماً في تخفيف ضغوط الحياة، "تمتلئ رحبة القصبة بالضيوف، في زيارة الولي الصالح مولاي علي الشريف، هناك تتناوب حِلَق البارود على احتلالها، وتعرض كلّ فرقة فنيَّاتها، فيتماوج الراقصون ببنادقهم زهواً؛ بفعل نغمة الطبول والمزامير، وكثافة المتفرجين المحيطين بهم مِن كلِّ جانب" (ص: 49).

في محور الحديث عن العزيمة والهمة وأصالة المعدن البشري، أثبت الكاتب في سردية الرواية أن الفتى إلياس رغم الظروف الصعبة التي مر بها إلا أنه وقف مع نفسه وقفة تأمل، عاد بعدها إلى طريق الرشاد، وتميز عن أقرانه بالجهد والمثابرة، فاستطاع أن يتخلص من سلوكياته السيئة المنحرفة، ويثابر على نفسه، ويشغل وقته في العمل، حتى أصبح أكثر أفراد العائلة ثراءً، وتمكن من شراء سيارة، ومنزل في المدينة، وعند تعرضه لإغراءات النساء خلال زيارته المدينة أثبت أنه شخصية صلبة لا تنجرف لمستنقع الرذيلة، في حين كانت المفارقة في الرواية أن رضوان ابن عمه الذي كان متفوقاً في دراسته، وذهب إلى المدينة لمواصلة دراسته الجامعية، رغم مداومته على حضور محاضراته في الجامعة والاهتمام بمستواه العلمي إلا أنه لم يتمالك نفسه أمام إغراءات النساء في المدينة، فأصبح من رواد منطقة درب اليهود "جاهدَ على أن لا يطأ درب اليهود ليُعاقر النساء، وفي نهاية الأسبوع لا يستفيق إلَّا وهو خارج منه إلى الدوش" (ص: 135). أما خليفة عم إلياس، الذي كان عاطلاً عن العمل، ما إن جاءته فرصة الوظيفة، إلا وانتهى به الحال في السجن، بعد أن تورط بعملية اختلاس. ينهي الكاتب المفارقة على لسان عبدالودود عم إلياس ناصحاً ابن شقيقته بقوله: "وضربَ له المثل برضوان ورشيدة اللذين علا شأنهما بالقراءة، سيتخرَّجان عمَّا قريب، سيفخر بهما أناس ويحسدهما أناس وإن استطبوا عندهما، صحيح أنَّ إلياس تجلَّد وارتقى لكن ليس كل الناس مغامرين، والمادة ليست حظًا، بل الفكرة الجيدة والعمل الدؤوب مع الإخلاص" (ص: 247)، ومن نصائحه أيضاً قوله: " في كلِّ إنسان عبقرية -على الأقل- لا يمكنه أن يكتشفها إلَّا مِن خلال الناس" (ص: 250).

حَمَلت الرواية أحاسيس النِّقْمَة المبطنة على الاستعمار الفرنسي للجزائر، وللجزائريين الحق في ذلك؛ لأن الاستعمار الفرنسي رسّخ عناصر الفرقة والطبقية بين أفراد المجتمع، التي بدورها أسهمت في تمزيق النسيج الاجتماعي الجزائري، وطغت على كل القيم التي تعود في جذورها للعادات والتقاليد المتوارثة، أو لتلك القيم والعادات التي اكتسبها المجتمع من الدين الإسلامي، الذي دعا إلى المساواة وحصر التنافس والتفاضل الاجتماعي بالتقوى، لأنها كلما تعاظمت في نفس الفرد زادته انحناء ورأفة ولطفاً ببقية أفراد المجتمع، نلحظ هذه النِّقْمَة من خلال سردية الرواية لموقف إمام المسجد ذي الأصول البيضاء، الذي اعترض على إمامة رجل من عرق أسمر للمصلين في المسجد الذي يتولى فيه مسؤولية الإمامة والخطابة، ورفض لاحقاً أن يزوجه ابنته، وأطلق الكاتب على لسانه قوله: "إذا طمع أسمر بالمحراب فغداً سيطمع بالصعود إلى المنبر.... لكن ما أخشاه يوماً أن تنتصر الديمقراطية الحقّة في هذا البلد، وتتسع الحُرّيات وتُقبر سطوتنا التي أمدنا بها الاستعمار..." (ص: 177). وفي موقع آخر قال على لسان مولاي: "لا شيء يُهدّم عمارة جاهٍ هندستها فرنسا في الصحراء أكثر من إمامة السُّمْر في المساجد الكبيرة..." (ص: 195). ووصف الاستعمار الفرنسي قائلاً " فرنسا أخبثُ استعمار في العالم، فرنسا الاستئصالية زرعت الأحقاد بطُرقٍ ذكيَّة، وأنبَتتْ في القلوب كراهية لن تنقلع إلّا بقيام الساعة!" (ص: 247).

قدمت رواية "المكناسيّة" بانوراما مُكثفة للحياة في الجزائر بعد الاستقلال، مُسلطة الضوء على التناقضات والصراعات التي واجهها أفراد المجتمع، بأسلوب أدبي جميل، وقدمت النصيحة التربوية بطريقة الانعكاس الجمالي للسلوك الفردي والقبول الذاتي بالنتائج المكتسبة، لا بطريقة الوصاية الأبوية أو الترهيب العقابي.

قراءة انطباعية في رواية دفاتر الطوفان

 

صدرت رواية دفاتر الطوفان للكاتبة الأردنية سميحة خريس في العام 2003، بطبعتين: أردنية عن أمانة عمان، ومصرية عن الدار المصرية اللبنانية في القاهرة، وفي العام التالي لصدورها فازت بجائزة أبي القاسم الشابي في دورتها التاسعة عشر، تُرجمت الرواية إلى اللغتين الإسبانية والألمانية، وحولت إلى مسلسل درامي من إنتاج المركز العربي للإنتاج الإعلامي في الأردن، في العام 2009 صدرت طبعة جديدة للرواية عن دار نارة في 222 صفحة من القطع المتوسط، وهي النسخة التي وقعت تحت يدي.

قسّمت الكاتبة البناء الموضوعي للرواية لأحاديث تمثل الأشياء والمستلزمات التي اقتضت حاجة الناس توفرها في عمان عام 1937/  1938، نقلت لنا في كل حديث سيرة التعرف عليه وطرق استخدامه وأهميته، ففي حديث الحرير قالت: "أن يكتب تجار الأقمشة مثل بدير أو الحمصي أو أبو قورة في دفترهم عني بأني كريب، فهذا لا يغتفر، على الأقل لرجال خبراء وذواقة أمثالهم... عندما وصف الأعراب كل ما يشف بالحرير، جانبوا الصواب، الحرير كيان رقيق، ولكنه ثابت وواضح لا يحتمل اللبس، لا يشف ولا يصف، هو كينونة بذاته، يمنح لابسه صفاته..." (ص: 5).

في حديث الحبر قالت: "أحبُ وقفت رفعت الصليبي المهذبة عند رف الكتب، أحب خطه عندما يبتاعني، ويدبج بي قصائده السرية التي يتغنى بها بالخمر أسوة برفيقه شاعر الخمريات والحب وكشف المستور من حكايات الدور والقصور، مصطفى وهبي التل..." (ص: 34، 35). ولأن الحبر رفيق المتعلم تدخل الكاتبة متسللة بانسياب لفنون السياسة وتعرج لقضية إدارية فرضتها السياسة على إمارة شرق الأردن، وهي قضية تعيين الأجانب في وظائف الدولة، قالت على ألسنة المحتجين: "مش هيك، بس المسألة ما بدنا نخلص جامعاتنا ونرجع من الشام والا بيروت ونقعد نتصفن بالقهاوي، وهم بيعينوا بالوظايف كل من هب ودب من بره" (ص: 36).

الحب والعاطفة والمشاعر حاضرة في الرواية، ففي حديث الحب، خلقت من الخوف والقلق والاضطراب مفتاح الحديث، لما يدور في أذهان الناس من هموم ومشاغل، قالت: "راح يشرح لها التوتر الحادث بين العسكر والإنجليز وحزب اللجنة الوطنية الذي ينتمي إليه، حدثها عن أناس يبيعون الأرض لليهود، وعن تجار يتعاملون مع الصهاينة، وعن ترتيبات تجري لإقامة معرض اقتصادي عربي يرد على مؤتمر الفئة الأخرى..." (ص: 143، 197). أما في حديث الأمسيات فقد ولجت مباشرة باب السياسة فتحدثت عن التغييرات الحكومية، ووصول توفيق أبو الهدى لرئاسة الوزراء، وتولي أحمد السقاف منصب قاضي القضاة، وعلى ألسنة أفراد المجتمع تساءلت: "هل ستحارب الحكومة الجديدة احتكار السلع... ولكنها تسالي أمسيات عمان، يضعونها مع حبات الكستناء فوق مواقد الفحم" (ص: 166). وفي حديث الأمسيات أيضاً، كانت فلسطين حاضرة في الرواية، كما أنها حاضرة في قلب كل أردني، قالت: "ولم يعد لعمان إلا حكاية واحدة يقال لها فلسطين" (ص: 175).

في حديث الرحالة أبدعت في نقل ما حبروا في وصف عمان، من ذلك قول أحدهم: "محاطة عمان بالتاريخ من مختلف الجهات، مكثف فيها كقطرة مسك في المكان..." (ص: 181)، وقول قائلهم: "أهل عمان القادمون من كل مرافئ الدنيا، يتباينون في مشاربهم ومطاعمهم، يتوافقون في أحلامهم ومطامحهم..." (ص: 191).

نجحت الكاتبة سميحة خريس في كسر رتابة الشعور بالملل في رواية دفاتر الطوفان، وجعلتها تجربة غنية تُثري معرفة القارئ بتاريخ عمان، وتُعرفه على أسرارها، ونفضت الغبار عن فسيفساء اللوحات الفنية التي صورت مشاهدها اليومية، ولأن البيئة العمانية متعددة الثقافة لتعدد أجناس ساكنيها واختلاف أصولهم ومنابتهم، جاءت لنا بحكايات متعددة مثلت هويات هؤلاء السكان وتعلقهم بعمان، واستيعاب عمان لهم. فمثلاً تضمنت الرواية قصة عشق من بطولة محامي شاب اسمه عبدالرزاق الشعيبي، مثل شباب جيله الذين حملوا هم التعاون مع الثوار الذين جعلوا من شرق الأردن قاعدة انطلاق لتحركاتهم، فقدموا أرواحهم فداء للقضية الفلسطينية، وحق الدفاع عن أرضها من العدو المغتصب، الذي يحظى بدعم ومساندة الإنجليز، الذين يفرضون انتدابهم على إمارة شرق الأردن، وبطلتها فتاة مسيحية اسمها أسمهان، تعمل ممرضة قدمت من بيت لحم ليستقر بها المقام في عمان، انتهت قصة العلاقة بينهما بالزواج الذي فرضته البيئة العمانية المحافظة.

صوّرت رواية دفاتر الطوفان جوانب متعددة من الواقع الاجتماعي في عمان زمان، فكانت شخصية الكاتبة سميحة خريس بثقافتها ووعيها حاضرة في الرواية، مثلت الأشياء والأشخاص والأحداث، كانت حريراً وحلقوماً وحبالاً وسكراً، وعطراً وقطاراً وكانت المطر، كانت شيئاً يدخل البيوت ويلامس الجسد ويخالط الروح، تحدثت عن القراميل، والشيالات، والقصدير، والأساور، تحدثت عن الإنسان والمكان والزمان، تحدثت عن السياسة، تحدثت عن الكاريزما الشخصية، تحدثت عن النظام، تحدثت عن المعارضة، تحدثت عن الثوار، تحدثت عن الصداقة والجوار، وتحدثت عن رعونة الأبناء وحب المراهقين، وعن ذكر الرحالة لعمان، وعن الدرك وفريدرك بيك وأبي حنيك، والأمير والقطروز، والوزير والشاعر، وعن الخوف وعن الحب، واختتمت بحديث اليوم، فهي رواية تمثل دائرة معارف مدينة عمان في ثلاثينيات القرن الماضي.

رواية دفاتر الطوفان من الأعمال الأدبية العربية التي تُساهم في الحفاظ على التراث الثقافي للأردن، وتقدم معلومات مهمة عن تاريخ مدينة عمان، وعادات سكانها وتقاليدهم، وتُجسّد التنوع الثقافي المميز للمدينة في تاريخها الحديث، وتُعد الرواية أيضاً عملاً أدبياً إبداعياً يثير انتباه القارئ بدقة وصف التفاصيل بأسلوب شائق ولغة سهلة.

قراءة انطباعية في رواية خنجر سليمان


من صور البطولة الخالدة، انبثقت حكاية تُروى، حكاية "خنجر سليمان" للروائي صبحي فحماوي، سيرة روائية أدبية تحيي ذكرى شُجاع هزّ أركان الظلم، "سليمان الحلبي" الذي زرع خنجره، في قلب قائد قوات الاحتلال الفرنسي لمصر، المعروف بالجنرال كليبر، انتقاماً للجرائم التي ارتكبها الجنود الفرنسيون بحق الشعب المصري خلال الحملة العسكرية التي قادها نابليون بونابرت على مصر عام 1798م.

تكونت البنية الموضوعية للنص الروائي الذي قدمه صبحي فحماوي تحت عنوان خنجر سليمان من خماسية متماسكة، قُدمت بلغة سردية سهلة، وتسلسل منطقي للحوادث التاريخية، وظف فيها الكاتب الأسماء الحقيقية لأبطال الرواية، والتحري البحثي عن الوقائع والأحداث الأساسية في موضوع الرواية وتقديمها على حقيقتها، مع إضفاء لمسات فنية لكسر رتابة السرد التاريخي، تمثلت في بعض المشاهد الدرامية التي تعلقت بالجوانب العاطفية والإنسانية، قدمها بطريقة فنية لا تؤثر في التكوين الانطباعي الحقيقي للحوادث والأخبار التي ارتكزت عليها سردية الرواية.

بدأ التقسيم الموضوعي لسردية الرواية بالحديث عن البيئة الحلبية، والظروف الاجتماعية التي ولد وترعرع فيها بطل الرواية سليمان الحلبي، الذي قُدم في الرواية على أنه الابن الأول للتاجر محمد الأمين الحلبي، وأنه محل عنايته واهتمامه في تحصيل العلوم والمعرفة والخبرة التجارية، تتطور الأحداث والظروف المحيطة بأسرة محمد الحلبي فيقرر الأب إرسال ابنه سليمان إلى مصر للدراسة في الأزهر والتخرج فيه فقيه وقاض، ثم يعود إلى بلده ليخدم مجتمعه، ويكون مصدر فخر واعتزاز لأبيه.

في قسم ثان من البناء الموضوعي للرواية، لم يترك الفحماوي السردية الروائية تخترق ذهنية القارئ دون أن يُحمِلُها انطباعه الشخصي عن مواضيع فكرية تتعلق بالقضايا الدينية أو السياسية، فمن جهة يقف عند قضية إقامة الصلاة في المساجد وأن الحكم المطلق في ذلك محتكم للنص القرآني وتجاوز الرأي الفقهي الدارج (ص: 22، 23)، أو رأيه بالزكاة ومقاربة الاسم والمفهوم مع الضريبة (ص: 89)، ورأيه بالفقه الإسلامي (ص: 147)، ولبس النقاب عند النساء (ص: 152)، ورأيه بالفتوحات الإسلامية وتوسع الدولة العثمانية في القارة الأوروبية (ص: 90، 91)، ومن القضايا السياسية التي تبناها الكاتب في الرواية، الدعوة إلى فكرة الوحدة السياسية والاقتصادية للشام ومصر، وأنها تشكل حالة تكامل قادرة على تعزيز قدرات الأمة في مواجهة الأخطار والمصاعب، والدعوة إلى تقارب السنة والشيعة تحت مظلة الدين الإسلامي الواحد، وعلى لسان نابليون قال: "لا بد من إيجاد سبيل احتيالي من شأنه أن يزيف المفهوم الديني عند المسلمين، وذلك لا يتم إلا بتركيز واسع على دراسة الفكر الإسلامي... وتُحوله عن منطلقاته وأهدافه" (ص: 216).

أما القسم الثالث: فكان يتعلق بحضور غزة بإنسانها وجغرافيتها وتاريخها وواقعها وماضيها، فمرة يستعرض تاريخها وحضارتها وأهميتها على لسان محمد الحلبي، ومرة يفاخر بهذا التاريخ والمجد والمنعة على لسان التاجر الغزاوي نادر الصباغ وابنه علي، ويذكر رأيه فيها على لسان بطل روايته سليمان الحلبي قائلاً: "منذ أن دخلت مدينة غزة، فهمت أنها مدينة مقاومة باسلة، وأنها مصنع للرجال... هي منطقة مركزية بين القارات، وأن القاصي والداني يطمع فيها، ويحاول الاعتداء عليها واحتلالها..." (ص: 88)، وخلال المحاكمة قال على لسان سليمان الحلبي: "غزة هي التي فجرت روح الثورة في داخلي، وحرضتني على عدم الرضوخ لاحتلالات الفرنسيين وبشاعات تصرفاتهم في بلادنا" (ص: 256).

في قسم رابع من محاور الرواية الموضوعية، تحدث الكاتب عن الحملة الفرنسية على مصر، متوخياً الدقة التاريخية في سردية الأحداث وتسلسلها الزمني، فتحدث عن أسباب الحملة، ومجريات الأحداث والمقاومة المصرية للاستعباد الفرنسي، التي تمثلت في ثورة القاهرة الأولى وثورتها الثانية، وجهود المقاومة في الصعيد المصري، ودور شيوخ الأزهر وطلابه في أحداث المقاومة، وتحدث عن الدور الذي أداه ديوان القاهرة (مجلس شيوخ التنسيق الأمني الأزهري) الذي أسسه نابليون بعد دخوله القاهرة من بعض المشايخ، لخدمة أهدافه الاستعبادية وإضفاء صفة الشرعية الدينية عليها، لكسب التعاطف والطاعة الشعبية، وتحدث عن دور العمالة والخضوع لإرادة المستعبد الذي قام به القائد المملوكي مراد بك. وقفت الرواية عند حقيقة تاريخية أخرى تعلقت بالفرنسيين، إذ بعد أن فشلوا في حملتهم على مصر وجهوا دعوتهم لليهود وحثوهم لإنشاء وطنهم القومي في البلاد العربية ابتداء من احتلال فلسطين (ص: 205).

مثل المحور الموضوعي الخامس في سردية الرواية جوهر الرواية ورسالتها الأساسية، تناول فيه الكاتب حدث اغتيال الجنرال الفرنسي كليبر على يد البطل سليمان الحلبي، الذي تمكن من طعن كليبر عدة طعنات بتاريخ 14/ 6/ 1800م، فأرداه قتيل، ثأراً للجرائم التي ارتكبها الجيش الفرنسي في حق الشعب المصري، وتحدث الكاتب عن المحاكمة الصورية التي حوكم بها سليمان الحلبي وقضت بحرق يده اليمنى، وإعدامه بواسطة الخازوق، وفصل رأسه عن جسده، وترك جثته في العراء حتى تتحلل، وعند مغادرة المستعبد الفرنسي الأراضي المصرية في شهر أيلول عام 1801م، أخذ معه جمجمة سليمان الحلبي، وخنجره الغزاوي الذي قتل فيه كليبر، لعرضها بمتحف ليز إنفاليد في العاصمة الفرنسية باريس.

الرواية كما أشار الكاتب في مطلعها جاءت رغبة في تخليد ذكرى بطل يستحق أن تروى سيرته، ونفض الغبار عن التشويه الذي لحق بها، وحين أُسند الأمر للروائي صبحي فحماوي على اتفاق ومحبة مع صديقه ماهر البطوطي، كان خيار السرد الروائي هو الأفضل، ولأنه مجال فحماوي وتخصصه، ثم كان اختيار اسم الرواية بمشورة ناصحة وموفقة من الدكتورة إلهام الشرع، أما إهداء الرواية الذي خصصه صبحي فحماوي متندراً على نابليون بونابرت، فقد كان سخريةً لاذعةً، عبر به خير تعبير عن سادية المجرم، وشعور مبطن بالرضى عن مصيره الذي استحقه.

قراءة انطباعية في رواية الحشر

أصدرت دار الينابيع للنشر والتوزيع والإعلان في العام 1993، رواية "الحشر" للكاتب الأردني محمد عبدالله القواسمة، تقع الرواية في 96 صفحة من القطع المتوسط، جاءت سردية الرواية على لسان شاب عشريني اسمه صالح، كان أحد أفراد أسرة فلسطينية استقر بها الحال في مخيم للاجئين في منطقة من مناطق الضفة الغربية، الذي تأسس لمراعاة ظروف الأُسر التي هُجّرت من قراها بعد الهجمات اليهودية عليها، والتنكيل بهم، وإخراجهم منها بقوة السلاح، ففروا أشتاتاً لا يحملون معهم إلا ما يكسو أجسادهم.

أشارت الرواية إلى التغيرات التي حدثت في بنية المخيم، الذي تأسس في البداية من خِيَم متلاصقة، استبدلت بعد زمن بوحدات سكنية بُنيت من الطوب والأسمنت، وخصصت كل وحدة لأسرة من الأسر النازحة، تولى مسؤولية الإدارة المباشرة في المخيم ــ التابع في تنظيمه وإدارة مرافقه إلى وكالة الغوث ــ شخصية وظيفية اسمه مدير المخيم، وأنيطت مسؤوليات الأمن برئيس المخفر، وأسندت مهمة التواصل بين إدارة المخيم ومجتمع اللاجئين في المخيم للمختار، الذي يُعيّن من قبل إدارة المخيم، تشير الرواية إلى تنوع سكان المخيم، حيث ينحدرون من مختلف أنحاء الوطن، ويتعايشون بانسجام تام، متحدين بهمومهم المشتركة. "غريب أمر هذا المخيم، فيه أناس من شتى بقاع الوطن، كلهم متناغمون مع همهم..." (ص: 63).

كشفت الرواية عن الممارسات السلبية التي كانت تصدر من إدارة المخيم بحق النازحين الذين يعانون من ظروف معيشية قاسية، فكل الأسر في المخيم تعتمد في سد رمقها على المؤن التي يتم توزيعها من قبل المنظمات الإنسانية ووكالة الغوث، في حين استغل مدير المخيم سلطاته ونفوذه ما أمكنه استغلالها، حتى وصل به الأمر إلى التعدي على حرمات الناس، وردت هذه المقاربة في الرواية باختلاء مدير المخيم بزوجة المختار مستغلاً غيابه عن المخيم، لم تحتمل نفس الراوي مرارة الموقف فانفجرت الشفاه متلفظة: "المختار يستحق ما جرى له. اطمأن إلى مدير المخيم، وفتح له بيته... رجع المختار إلى البيت، وجد زوجته جميلة مع مدير المخيم..." (ص: 42، 43). قدمت الرواية هذه المقاربة كنموذج مُخجل للمسؤول الذي لا تهمه مصلحة المجتمع، ولا ظروفه البائسة، بل يسعى لتحقيق مآربه الشخصية دون أي اعتبار للأخلاق أو القيم. لتُثير مشاعر الغضب والاستياء لدى القارئ، وتُسلط الضوء على ظاهرة خطيرة يُمثلها المسؤول الفاسد الذي يُشكل عبئاً على المجتمع في كل زمان ومكان.

في مقاربة ثانية بعيدة عن الحرمات، كان مدير المخيم يمارس سلطاته الإدارية لعرقلة تأسيس النادي الشبابي المزمع إنشاؤه في المخيم، ذُكِر ذلك على لسان صديق بطل الرواية: "هل سمعت كذب المدير؟ لن يألو جهداً في مساعدة الشباب. تناسى أنه وقف حجر عثرة وصديقه رئيس المغفر أمام إنشاء النادي" (ص: 33). وفي مقاربة ثالثة تدل على استغلال السلطة والنفوذ من قبل مدير المخيم ورئيس المخفر عند تعارض مصالحهم مع مصالح أعوانهم في المخيم، نجدهم لا يترددون في اتخاذ قرار عزل المختار "جمعة" عن المخترة ــ بعد افتضاح علاقة مدير المخيم بزوجة المختار ــ ومنحها لشخصية انتهازية تملق لرئيس المخفر حتى يكون مختاراً للمخيم، وحيث إن المختار الجديد هو والد زوجة "صالح" بطل الرواية، نصحه صديقه "نعيم" قائلاً: "انصح عمك ألا يثق لا بمدير المخيم ولا برئيس المخفر. الاثنان لصان كبيران، لا يهمهما غير مصالحهما..." (ص: 49).

المرحلة الزمنية التي دارت بها أحداث الرواية مثلت النصف الثانية من سنة 1966 والنصف الأولى من سنة 1967، تناولت السردية الروائية الحديث عن حالة عدم الرضا عن مجمل إدارة المشهد السياسي من قبل الحكومة، مما نتج عنه تحركات حزبية ومعارضة سرية للحكومة، شارك فيها بطل الرواية "صالح"، وتم القبض عليه خلال محاولته نقل منشورات البيان الختامي للحزب من المخيم إلى المدينة، في المعتقل تعرض صالح للتعذيب وأودع في زنزانة انفرادية، لكنه أصر على عدم الاعتراف بالتهمة الموجهة له، استمر اعتقاله في ظروف مهينة حتى صدور عفو عام، بعد الهزيمة التي لحقت بالجيوش العربية في حرب حزيران 1967. قدمت الرواية من خلال هذه الأحداث نقداً لاذعاً للسلطة القمعية التي حاولت إسكات أي صوت معارض، وبرز صمود البطل في وجه الظلم والاضطهاد. وسلطت الرواية الضوء على تداعيات الهزيمة العربية وانعكاساتها على الواقع السياسي والاجتماعي.

عند لحظة الإفراج عنه، وقف صالح موقفاً غاضباً ومشمئزاً من ضباط الأمن الذين اعتقلوه وحققوا معه وأوسعوه تعذيباً في معتقله، بعد قولهم له: "الآن نحن في الهوى سوا، يا صالح. يجب أن ننسى الماضي، ونفكر في العدو... الآن تستطيع أن تفعل ما تريد: توزع منشورات، تحرك مظاهرات، تقلب الكرة الأرضية. كل شيء مسموح به الآن. اذهب يا صالح. اذهب ودافع عن الوطن" (ص: 59)، هؤلاء الضباط الذين كانوا يحرصون على إثبات التهمة عليه ليتعفن في السجن، يطلبون منه اليوم ممارستها لإنقاذ البلاد التي ضيعوها بسياساتهم ونهجهم البوليسي العقيم.

عاد صالح إلى المخيم بعد إطلاق سراحه، فوجد أن زوجته تريد الطلاق، وأن والدها الذي تولى مسؤولية المخترة في المخيم أصبح يرى أن ارتباط ابنته بزوجها صالح لا يناسب مكانته الاجتماعية التي وصل إليها، سيما أن صالحاً أصبح في نظر البعض عدوا للحكومة، متناسياً المختار المتملق أن الحكومة سقطت بعد الهزيمة، وأن البلاد كلها واقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي، وأن الكل أصبحوا اليوم في الحال سواء، تحمل هذه المقاربة التي قدمها الكاتب في ثناياها الإشارة إلى تجذر روح الخيانة عند المختار، الذي يحاول جهده في المحافظة على مكانته الاجتماعية التي وصل إليها، حتى لو تطلب الأمر تعاونه مع قوات الاحتلال.

حاول الكاتب في سردية الرواية أن يكشف الواقع العربي المُؤسف، ويُثير الجدل حول مسؤولية الهزيمة، ويُصوّر هول النكسة، ويُؤكد على وحدة المصير العربي، ويُثير مشاعر التعاطف مع اللاجئين، ويُؤكد على أهمية مقاومة الاحتلال، ويُثير مشاعر الأمل والتفاؤل بمستقبل أفضل، ولم تخل الرواية من الإشارة إلى تحميل جمال عبد الناصر مسؤولية هذه النكسة، وإن علت بعض الأصوات في الرواية ملتمسة له العذر، جاء في حوار بين والدة بطل الرواية ووالده عن مآل الأحداث قولها (الأم): "النصر من عند الله يا ابني، والهزيمة من عند عبدالناصر" (ص: 82). وقوله (الأب): "أنت لا تعرفين في السياسة ثلث الثلاثة وتقولين عن عبدالناصر إنه سبب الهزيمة. الله يعلم ماذا يحدث لنا بعده" (ص: 82)، لكن ما الفائدة إذا كانت النتيجة التهجير والنزوح، وسقوط البلاد بيد الاحتلال. تم تدمير المخيم بعد اقتحامه من قبل العدو الصهيوني، الذي فتح النار على سكانه فقتل من وقف عاري الصدر في مواجهة بنادق جنوده، وشرد من نجا بحياته إلى المناطق التي لم تصلها بعد قوات العدو، أو إلى شرق الأردن.

جاء اسم الرواية من المواقف الصعبة التي مر بها بطل الرواية، أو اعترضت بعض شخصياتها، فأولها قوله عن حاله في زنزانة السجن: "منذ حشرت لم أستيقظ وحدي غير هذه المرة" (ص: 3). وفي الحافلة يقول: "في المقعد الذي أمامي حشرت امرأة سمينة..." (ص: 5). وعند اعتقاله من قبل رجال الأمن قال: "وأدخلوني سيارة صغيرة، حشرت في المقعد الخلفي بين جنديين..." (ص: 11). وحين أوسعوه ضرباً وتعذيبا في المعتقل قال: "حاولت أن أتلو سورة الحشر، انطلقت الآيات تحت ضربات السياط مبتورة..." (ص: 20). : وعن واقعهم المعيشي في المخيم قال: "بعد انحشارنا في غرفتي اللبن والإسمنت..." (ص: 23). وعن الإصرار على تأسيس النادي جاء على لسان صديقه: "سأظل محشوراً في جلدي، وأواجه المسؤولين حتى يتم إنشاء النادي" (ص: 56). تشير الرواية إلى أن الأمة دخلت المحشر، وأنها باقية فيه حتى تغير من سلوكها السياسي، وتعدل من نهجها العملي في مواجهة التحديات التي تواجهها، وأن تتعالى الأصوات التي تقدم المصالح العامة على المصالح الخاصة، وأن تبتر الأيادي المتخاذلة والمتعاونة مع العدو. الحشر" عنوانٌ يُجسّد واقعاً مريراً، ورمزاً قوياً يُمثل الواقع العربي المُعاصر، ويُؤكّد على أهمية التغيير من أجل مستقبل أفضل.

قراءة انطباعية في رواية على سبيل المثال

 

صدرت رواية "على سبيل المثال" للكاتب الأردني أحمد طمليه، عن دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع في العام 2023، بدعم من وزارة الثقافة الأردنية، جاءت الرواية في 132 صفحة من القطع المتوسط. قدم الكاتب سرديته الروائية من خلال وضع القارئ أمام تسعة عشر مشهداً، مثلت في مجملها فكرة الرواية، وحدود أدوار الشخصيات ومسارات تأثرهم أو تأثيرهم في شخصية بطل الرواية، انسابت سردية الأحداث في متن الرواية على لسان الكاتب، الذي استعاض بضمير المتكلم (أنا)، والانتساب للفعل (غادرت، أتذكر، دخلت، قلت، أقول...) عن تسمية بطل للرواية.

الصورة الانطباعية التي يمكن أن يكونها القارئ عن بطل الرواية أنه شخصية قلقة، لا يعرف ماذا يريد، ولا يريد أن يعترف بشيء مما يعرف. لا يريد أن يتعب، ولا يريد أن يستريح، وقد جاء هذا التوظيف لحالة الاضطراب في شخصية بطل الرواية حتى تكون أداة غير مباشرة لخلق مادة الحوار، ووسيلة مساعدة يمكن من خلالها للكاتب أن يناقش المحاور الموضوعية التي كون منها بنية الرواية وفكرتها، فلجأ إلى طرح الفكرة ونقيضها، ومن ثم جاء توظيف الشخصيات الروائية لتبرير أو تعليل الحدث مدار النقاش، هذا التوظيف فتح آفاق أوسع للحوار، وساعد في تكوين صور متناقضة عن مجريات الأحداث، وبذلك تمكن بطل الرواية من مناقشة مواضيع اجتماعية متعددة تعلقت بالقضية الفلسطينية، والسيرة الشخصية.

تناولت سردية الرواية موضوع الأسرة الفلسطينية اللاجئة، التي فرت من الأراضي الفلسطينية المحتلة إثر نكبة عام 1948، من حيث ظروفها وتكاثرها وتمددها، وقدرتها على تجاوز عُقدة الشتات، وحالات تكيفها مع الظروف التي فُرضت عليها، قال: "بعد نكبة عام 1948، توزع جزء كبير من الشعب الفلسطيني في مخيمات... ورغم ضيق الحال، إلا أنهم كانوا يُكثرون من الإنجاب... كانوا يفعلون ذلك بحثاً عن الأمان، بعد أن تقطعت السبل بالأسرة الأم الكبيرة، أو أن ذلك كان يتم لدوافع وطنية... فكلما زاد عدد أفراد الشعب الفلسطيني في الشتات، أصبح حلم العودة أكثر قربا..." (ص: 69).

في خضم هذه المعاناة، والحياة المريرة، لك أن تتخيل قوله: "والدليل على أنهم كانوا يعيشون، أن المخيمات لم تعد مخيمات خلال سنوات معدودة، بل تحولت إلى أحياء فيها مبان وعمارات وحركة تجارية دؤوبة. لكن حذار من الاعتقاد أن هذا التحسين في مستوى المعيشة جاء على حساب حلم العودة، بل إنه عزز ذلك الحلم..." (ص: 74)، وقوله على لسان صديقه بدر: "أتفترض أن جيل النكبة كان قابضاً على جمر مفتاح العودة؟ إذا كان كذلك فعلاً ... لماذا بنت أمك عمارة... من يفكر في العودة لا يبحث عن سُبل استقرار في الشتات... ثم، إذا كان الجيل الذي تعنيه جاداً، متفانياً، يعرف ما يريد، فلماذا أنجب جيلاً مائعاً، باحثاً عن ملذاته الخاصة؟. ولم تذكر شيئا عن الذين هاجروا، وسافروا إلى دول فاحشة الثراء... أقصى طموحهم كان البحث عن حياة رغيدة" (ص: 79).

على هامش هذه المعاناة الكبيرة اعترضت بطل الرواية مشاكل شخصية كثيرة، بصفته فرداً من أفراد المجتمع، تأثر بالمحيط الاجتماعي الذي عاش فيه، لذا؛ اهتمت الرواية بالعلاقات الأسرية التي تنوعت بين حالات الفتور والإهمال، إلى حالات التعاطف الشديد ومشاركة المشاعر، بدأ المشهد الأول من الرواية بالكشف عن مشاعر بطل الرواية تجاه بيته وأسرته الصغيرة، قال: "البيت هو المكان الوحيد الذي أشعر فيه بالطمأنينة... فثمة، في نهاية المطاف، زوجة وطفل... قلت بدهشة: أحمد.. وهو اسم ابني.." (ص:7، 9)، قدم لنا هذا الاقتباس لمحة عن شخصية البطل ومشاعره المتناقضة، حيث يشعر بالطمأنينة في بيته، لكنه في الوقت نفسه وضع القارئ على حافة الدهشة التي انتابته من تفاجئه باسم ابنه "أحمد"، واسم أحمد هو اسم كاتب الرواية حقيقة.

قال في موضع آخر على لسان بطل الرواية: "الظروف التي عشتها جعلتني دائماً متابعاً لهموم الآخرين... وعاطفتي المكتسبة بالفطرة، كانت تجبرني على أن أتفاعل، وأحزن، وأفرح، وأبكي" (ص: 16، 17)، ولأنه كان مدركاً تبعات هذه العاطفة، ومقراً بضعفه تجاه هذه المسؤوليات، وعجزه عن القيام بها، جاهد في التنصل منها، ليبقى في حالة تصالح مع الذات، محاولاً إبعاد نفسه عن الوقوع في الملام، خشية أن تنعكس نتائج المشاركة أو المشاورة سلباً على قضاياهم الشخصية، قال: "هم يرون أنني مهم، وأنا أناضل من أجل إبطال هذه التهمة عني" (ص: 18). وفي المشهد الذي عنونه بــ "أنت هكذا" (ص: 89) صور لنا حالات الانسحاب والانهزام التي عصفت بنفسيته، فصور نفسه قاتلاً! زهق أرواح كل من مر في مخيلته حين استعرض شريط ذكرياته معهم.

قدم النص لمحة عن رواية غنية بالمشاعر الإنسانية، نفث فيها بطل الرواية حزناً على فراق أخيه إسماعيل ــ قد ترمز شخصية إسماعيل إلى جانب من جوانب شخصية بطل الرواية ــ  أعيته قدرته الكتابية الفيض بمشاعره الداخلية الحزينة، فأردف قائلاً: "وأنزلق في إحساس سأعجز حتما عن التعبير عنه" (ص: 33، 35). ثم أنه وقف طويلاً متأملاً حالة أمه التي تعبت وعانت الكثير لتبقى أسرتها سعيدة مستقرة، ومن شفقته على حالها ومصيرها تمنى لو أنها لم تتزوج، ولم تنجب. وكثيراً ما تحدث عن سيرة أخيه محمد في غير موضع من الرواية، حيث قدم وصفاً مُبهراً لموهبته في الكتابة، مما يدلّ على تقديره للإبداع والإلهام قال عنه: "كان محمد بالمناسبة كاتباً مبدعاً، فرض نفسه على الجميع باعتباره كاتباً لا يجارى. وهو يصنع من الكلمة جملة، ومن الجملة معنى، ومن المعنى دهشة" (ص: 125) في هذا الموضع قاربت السردية الروائية الحقائق الواقعية. وفي الزاوية التي تؤكد أهمية الحب والعلاقات العاطفية في حياتنا، كانت سردية الرواية حاضرة بشكل تفاعلي حينا وبشكل ضمني حيناً آخر، فقد عبرت عن العاطفة الحارة تجاه الحبيبة، سواء التي أحبت أن ترتبط به وهو في شغل عنها، أو التي أحبها وهي في شغل عنه، فكانت شخصية "إلهام" حاضرة على سبيل المثال للأولى، وشخصية "وفاء" مثال للثانية.

ساهمت المقاطع المشهدية التي وصفها الكاتب ووظف حالة الارتباك الطاغية في شخصية بطل الرواية عند مناقشتها في إثارة فضول القارئ، وجرفته في تيار الحوار، للمشاركة فيه، والبحث عن التفاصيل، لاستكشاف النهايات، يقول: "لم يهدأ لي بال إلا عندما مررت على صديقي بدر، هو سهران، اعرف أنه سهران، فهو لا ينام، لعله ينام، لكنه دائماً على نفس الهيئة، جاهز لأن يسمع، عكسي تماماً..." (ص: 24)، ويقول على لسان صديقه: "أنت هكذا، دائماً تُبقي شيئاً ما معلقاً. تفترض أحيانا أن الآخر قد فهم عليك، رغم أن ثمة تتمة عليك أن تأتي بها..." (ص: 26).

عبر الكاتب بأسلوب مباشر عن رأيه في المتسلقين الذين ركبوا موجة النضال واستغلوا القضية الفلسطينية على الصعيد السياسي لتحقيق مآربهم الشخصية، قال: "ثمة من ارتزق، وتكسب، وركب موجة القضية، على المستوى السياسي، وأصبح له مسمى، بل وقدرة على التحكم بمسار القضية، وعلى نحو لا يتفق أبدا مع نبض الوجدان الشعبي... وأصبحت الأزمة الفلسطينية ليست أولوية، بل ثمة أزمات عربية، كأن الأمر مقصود: توريط كل الشعوب العربية بأزمات من نوع أو آخر... لقد تورطت شعوب عربية بمتاهات، جعلته يقول رغما عن أنفه: اللهم رأسي" (ص: 82).

رغم محاولات الكاتب طرح إشكاليات الرواية ومواضيعها بشكل متناثر، حتى يخلق حالة من التفاعل بين القارئ والموضوع، إلا أنه كان يجمع المحاور المتشعبة بثنائية مشهدية، يكمل كل مشهد منها المشهد الآخر: مشهد صور شذرات متفرقة ومختارة عن سيرة شخصية وعلاقات عاطفية أخوية لجو أسري مخلوط بشيء من الخيال والتورية حتى لا يقع في دائرة السيرة الروائية. والمشهد الآخر سلط الضوء على الواقع المأزوم تجاه القضية الفلسطينية بكل أحمالها وأثقالها وتبعاتها، التي أتعبته حتى تمنى لنفسه أن لا يفكر.

من العبارات التي ذكرها في الرواية مثلت فلسفته في الحياة قوله: "إن للصمت لغة تطغى على كل لغة" (ص: 33)، "لا يوجد متعة تضاهي متعة الاختلاء بالذات" (ص: 59)، "أجمل ما في الطريق هو الطريق. أجمل ما في الوصول هو انتظاره... لك أن تتخيل متعة الانتظار" (ص: 71)، "كل شيء ممكن أن يتدبر، طالما ثمة حلم، وثمة أمل" (ص: 72)، "الطريق تحتاج طيرانا لا ترنحاً قرب الحواف" (74)، "العالم كله يبني قناعاته على افتراضات. ولهذا فإن جوهر الوجود هو الصراع. لهذا هناك حرب وسلم، خير وشر، شك ويقين، لو وصلنا جميعاً إلى اليقين المطلق، فمعنى ذلك العدم" (ص: 97)، "الجفاف العاطفي، لا يقتصر على العلاقات الزوجية، بل إنه يشمل جميع العلاقات" (ص: 104).

في الختام، يمكنني أن أعتبر المشاهد التسعة عشر التي وظفها الكاتب عماداً للرواية، نماذج واقعية تتلاقى في الحياة اليومية. وقد برع الكاتب في معالجتها بطريقة فنية، مستحضراً وعيه العميق الذي تجلى في كل جانب من جوانب سرديته الروائية. لوصفها بأنها مشاهد تعكس الحقيقة والواقع الذي يشعر به أو يستشعره، وأنها تنبض بالحياة والإحساس، ومن هنا أرى أن هذا التوفيق الفني كان سببًا مقنعًا لتسمية الرواية "على سبيل المثال".