بدأت الرواية بمشهد فني صور حادثة انتقال فتى يتيم من بلدته الريفية في جنوب العراق "سوق الشيوخ" إلى مدينة بغداد. بدا هذا المشهد للوهلة الأولى في مخيلة الفتى نقلة نوعية كبيرة، فهذه المدينة ليست أي مدينة، بل هي العاصمة. لكن السردية الروائية فرضت على هذا الفتى حدودًا مكانية محصورة، تمثلت بمحيط منطقة باب الدروازة. وجعلت من هذا المحيط الهامشي شاهدًا على الأحداث المروية والمشاهد المتخيلة لمجمل الإطار الموضوعي في سردية الرواية. ومع ذلك، تضمنت الرواية إشارات متناثرة إلى مراكز مكانية خارج هذا المحيط المفترض، فكان "باب الدروازة هو المكان الذي يمكن أن يوصله إلى العالم أو يحصره في عالم آخر" (ص: 42).
جاء التوظيف المكاني لخدمة أغراض السرد الروائي من خلال ربط المكان بظروف اجتماعية متداخلة، لها علاقة وثيقة بالتكوين النفسي لشخصيات الرواية التي مثلت نماذج اجتماعية، عبر كل منها عما ورائه. وحتى يسيطر الكاتب على اتجاهات شخصيات الرواية، ويحقق الهدف من اختلاقه لشخصياتهم، زاوج بين الصورة المتخيلة والصورة الواقعية. وظف الصورة المتخيلة لتشويق القارئ على القراءة، فانطلق من إثارة فضوله لمعرفة كل ما يتعلق بقصة "فتحية"، وكشف الميول السياسية لزوج خالته "سعيد"، والاطلاع على سر علاقة أم صلاح ببائع الأعشاب في سوق السربادي. في حين كانت الصورة الواقعية تمثل منعرجًا على جوانب من السيرة الذاتية، تعددت الإشارات الدالة عليها، منها مطلع سردية الرواية: "كان ذلك في صيف عام 1978، حينما وطأت قدماه أرض العاصمة بغداد" (ص: 5)، "لم يكن حينها قد أكمل عامه السادس عشر" (ص: 6)، "ولم يكن قادرًا على مغادرة يتمه المبكر" (ص: 7)، معاناته مع أسرته وزوجة والده، ووفاة والده، وانتقال شقيقه الأكبر إلى بغداد (ص: 33)، احتفاءه بحصول شقيقه على درجة الدكتوراه في عام 1980 (ص: 121).
انحصر الإطار الزماني لسردية الرواية بين عامي 1978 و1979، حيث مثلت هذه الفترة حالة تعايش بطل الرواية الفتى "خلّاوي" مع الأحداث التي مرت به خلال إقامته في بغداد في خان اكتظ بساكنيه جاء تفصيل وصفه في متن الرواية (ص: 32). لكن مجمل البنية الموضوعية لسردية الرواية كانت تمثل حالة محاكاة للواقع السياسي في تاريخ العراق الحديث خلال الفترة الزمنية 1958-1980، التي بدأت بانقلاب 14 تموز 1958، الذي أطاح بالملكية، ومن ثم صراع الانقلابيين وتكرار انقلاباتهم العسكرية على الحكم حتى انتهت بوصول صدام حسين لمنصب رئاسة الجمهورية في 16 تموز 1979، وتزايد المخاوف من التدخل الأمريكي في المنطقة واتخاذها ميدانًا للتعامل مع الاتحاد السوفيتي، "العراق والمنطقة مقبلان على الانتحار .. إنها أمريكا ستقود القرن إلى الهلاك لتسيطر على العالم" (ص: 156). وانتهت سردية الرواية عند حدث مفصلي في تاريخ العراق تمثل باندلاع الحرب العراقية الإيرانية عام 1980.
ابتعد كاتب الرواية عن السرد التاريخي المباشر للحوادث والمواقف التي مرت بالعراق خلال الإطار الزماني الذي قيد به حدود الرواية الزمنية، لذلك اختلق شخصيات متحركة في الرواية قادرة على الإشارة والترميز، تعبر عن التفاعل الاجتماعي في الشارع العراقي الذي تعايش مع هذه الحوادث والمواقف وتأثر بتبعاتها السياسية والنفسية والاقتصادية. كانت أبرز هذه الشخصيات شخصية "سعيد" الذي لعب دورًا مهمًا في سردية الرواية، لأنه كان يمثل صوت الحزب الشيوعي العراقي الذي كان على صلة بنظام الحكم في عهد الانقلاب الأول على الملكية، واستمرت هذه العلاقة حتى العام 1963، ليدخل بعدها في حالة الإقصاء السياسي، ثم في مرحلة صدام مع البعثيين، انتهت بالتنكيل والقتل والتشريد لأعضائه، وأخيراً حُظر الحزب في العراق عام 1979. ومنها شخصية "هادي" بائع السبح الذي يكتسي في الظاهر بثوب الوقار والإيمان، ويخفي شخصيته النزوة المنافقة، مسايرة للواقع، وابتعادًا عن أعين ورقابة النظام، في إشارة إلى المعارضة التي تتحين الفرص لتظهر للعلن.
أشارت سردية الرواية إلى واقع اجتماعي متأزم، تعلق بمناسك الزيارات التي تؤدى في المراقد والأماكن المقدسة، في إشارة إلى فلسفة خفية تبرر اندفاع طبقات المجتمع المهمشة للانغماس في التيار الروحي والإيماني، ترتكز بنيتها على عقيدة انهزامية أساسها: "إنه لجوء للتعويض عن الفقر والواقع والاحتماء بما هو غيبي" (ص: 12).
رمز الراوي لعقدة الخوف الاجتماعية التي تتصادم مع أحداث الواقع بنباح الكلاب، لكن هذا النباح لا يتعدى صوته أذني الفتى خلّاوي، ولا يسمعه أحد من حوله، لكن تبعاته انعكست على المجتمع، حيث خلق خضوع الناس وتسليمهم بالأمر الواقع لتعدد آلهتهم: "آلهة الدين، وآلهة السياسة، وآلهة القدر" (ص: 118)"، الآلهة تتكاثر كلما زاد صمتكم... إنكم من تصنعون الآلهة، إنكم من تصنعون الدكتاتور" (ص: 239).
كشفت سردية الرواية عند حديثها عن التحرش الذي تتعرض له النساء في الشوارع والزقاق والأسواق التجارية المزدحمة، ومن ثم فضحها قصة اغتصاب فتحية من قبل ابن عمها وصديقه، وقصة اغتصاب أم صلاح من قبل تاجر في محله التجاري في سوق السربادي، عن حالة تماهي أفراد المجتمع وتعايشهم مع واقعهم المرير رغم ما يحمله من جروح وآلام تفسد لذة الحياة، وجعل من محاولة تقرب فتحية من خلاوي دليل على ذلك، فعلى الرغم من جرحها الغائر والطعن في شرفها وهروب والدها بها من بلدتهم ليتجاوز مطالب أقاربه بقتلها وغسل عارهم، إلا أنها تعود لمغازلة خلاوي في دلاله على تعايشها مع واقعها الذي آلت إليه (ص: 178)، وكأن لسان الحال يقول ما إن يفلت العراق من بؤس يجره عليه العسكر حتى يعود في بؤس يجلبه له السياسيين، وينهي سردية الرواية بقولة: "إياك والانتماء إلى الأحزاب، حينها سيحل الخراب بك وبعمرك" (ص: 240)".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق