في الوقت الذي لملم فيه عام 2023 خيره وشره ليغادرنا إلى غير رجعة، صدرت رواية "الآن في العراء" للروائي الشاعر حسام الرشيد عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، أهداني نسخة منها ممهورة بتوقيعه، سعدت بها كثيرًا، فتفرغت لقراءتها وكتابة هذه القراءة الانطباعية عن إطارها الموضوعي، فقد جاءت الرواية في 239 صفحة من القطع المتوسط، قسمها الراوي إلى سبعة فصول تساوت تقريباً في عدد الصفحات، وأعطى لكل منها عنواناً يعكس انطباعه العاطفي عن تفاعل الأحداث في سردية الرواية.
عبرت أحداث الرواية عن
أربعة محاور اجتماعية عاصرها جيل الآباء وجيل الأبناء، مثل المحور الأول حالة
الصراع النفسي الداخلي لشخصيات الرواية، ومثلت العلاقات الأسرية محورها الثاني،
ومثلت جماعة رفاق الدراسة محورها الثالث، في حين شكلت البيئة المحيطة بتأثيرها
وتفاعلاتها المحور الرابع.
سرد الراوي في الفصل
الأول الذي عنونه بـ "الشرارة الأولى" معاناته في إخراج مشروع روايته من
خلجات نفسه إلى حبر فياض ينتظم كلمات وجملاً على الورق، يقول: "كان الهاجس
بعدم القدرة على الكتابة، أشبه ما يكون بكابوس لعين، طاردني حتى في أحلامي"
(ص: 16)، "كان رأسي يطن بأفكار لا نهاية لها (ص: 17).
تعرف بطل الرواية
"نصر" على الروائي "إلياس" الذي طلب منه مساعدته في صياغة
خاتمة روايته الأخيرة، في المقابل طلب نصر من إلياس قراءة ما كتبه من أوراق روايته
ليقدم له النصح عله يخرج من حالة writer's block التي
وصفها بداء عدم القدرة على الكتابة، لكن دُهِشَ نصر حين رأى أن إلياس لم يضف على
ما قرأ من أوراق روايته إلا عبارة "لتنتظر الشرارة الأولى" كانت بالنسبة
له عبارة محبطة لم يمهله القدر أن يعاتب إلياس عليها، في هذا الفصل من الرواية
ندرك حقيقة ـــ وإن كانت تحتمل الخطأ ـــ أن كاتب الرواية تخفى في ثوب "نصر"
وأن شخصية نصر مثلت شخصيته الحقيقية مصبوغة بشيء من الخيال والتمويه ليتحرر من
تعظيم الذات في سردية الرواية، ولكي يتيح المجال للخيال أن يختلق مشاهد تخدم عنصر
التشويق وتساعد في استرسال السرد الروائي لخدمة البناء الموضوعي في الرواية، يؤيد
ذلك ما جاء في ديباجة الرواية: "سأكون كاذبا إن قلت لكم: ((إن
الأسماء والأحداث والشخصيات هي من نسج الخيال...))".
ربط الراوي في سردية
الرواية بين مشاركته في مراسم تشييع إلياس ودفنه وبين نصيحة إلياس له "لتنتظر
الشرارة الأولى" من خلال تصوير مشهد عودته من مراسم التشييع ومروره بمكتبة
كانت على طريقه إلى منزله، دخلها ينظر ما تعرضه من كتب، فجلب انتباهه فيها كتاب
قديم تراكم عليه الغبار، فخالجته نفسه على شرائه، ففعل، ليكتشف أن هذا الكتاب هو
الكتاب السنوي لخريجي الجامعة التي تخرج فيها، والمصادفة أن هذا الكتاب يحتضن صورة
"سماء" الفتاة التي أحبها أيام دراسته في الجامعة. وبهذا المشهد دخل في
تفاصيل سردية الرواية معنوناً فصلها الثاني بـ "الحب وراء الأشجار".
تعددت نماذج الحب التي
وظفها الراوي في الرواية، فكان كل نموذج منها يمثل جانباً من جواهر الطرح الموضوعي
في سردية الرواية، فقدم الراوي نموذجاً إيجابياً رائعاً لعلاقات أفراد أسرته
المكونة من والده وشقيقته، مع الاحتفاظ بصورة ناصعة لعاطفة المحبة لوالدته المتوفاة،
ولا يهز هذه الصورة إلا خلافات والده مع أعمامه بسبب تنازعهم على شيء من الميراث.
مثل النموذج الآخر من
نماذج الحب علاقة العشق التي استهام بها صديقه في الجامعة "بهجت" بطالبة
تدعى "ميادة"، انتهت هذه العلاقة بفاجعة وفاة ميادة بمرض السرطان، ووفاة
بهجت في العراء بعد أن سلك طريق القتال في صفوف التنظيمات المقاتلة في أفغانستان،
بعد أن ضاقت به الدنيا بفراق محبوبته ميادة.
مثل النموذج الثالث علاقة
حب المصلحة التي تلاقت فيها مصالح صديقه "سليم" مع زميلة الدراسة
"جيتان"، كان سليماً يطمح، على الرغم من فقره وعوزه، ليكون بارزاً في
المجتمع من خلال الارتباط بزميلته جيتان ابنة المتنفذ، وبدورها كانت جيتان تستغل
علاقة سليم بزملائه لتثنيهم عن معارضة الحرب المشتعلة في المنطقة والتي تصب
منافعها في مصلحة والدها، لكن هذه العلاقة العاطفية فشلت لتنتهي بانتحار سليم في
غرفته. وتكاد تكون الصورة الوصفية لقساوة الحياة الأسرية التي عاشها سليم تفطر
القلب (انظر الرواية، ص 166).
النموذج الرابع من
علاقات الحب الواردة في سردية الرواية مثلته "أمل" شقيقة الراوي، التي
أخلصت في حبها لخطيبها "وعد" الذي غيّرته بهجة الدنيا بعد سفره للخارج
بعقد عمل، فانحرف سلوكه وتغيرت أخلاقه لتواكب متطلبات العالم الجديد، وأصبح يتعذر
كل عام عن إتمام مراسم زواجه من أمل بمشاغله والتزاماته، حتى قررت أمل تركه
والتخلي عن عاطفتها الصادقة نحوه لتحافظ على كيانها ومستقبلها الشخصي.
النموذج الخامس من مشاعر
الحب التي استفاضت فيها قريحة الراوي كانت في حب الوطن والعروبة والقومية وكل ما
يربط الإنسان بأرضه وتاريخه الحضاري، فوظف حالة الحراك السياسي التي انتمى إليها
بتأثير مشاعر والده الصادقة نحو تاريخه الشخصي، وتأثير صديقه "نجيب"،
وتكاد تكون حالة التفاعل السياسي الاجتماعي هي المحدد الزمني لكل أحداث الرواية،
والتي مثلت حالة التحول السياسي في الأردن من فترة الحكم العرفي إلى النهج
الديمقراطي في أواخر عقد الثمانينيات وأوائل عقد التسعينيات. وهنا مصيدة ثانية ترجح
الشك في تخفي كاتب الرواية في ثوب "نصر"، الذي كان في العام 1989 في سن
التاسعة عشرة من عمره، وأحد طلبة السنة الأولى في كلية الحقوق بالجامعة الأردنية.
النموذج السادس الذي شكل
جوهر الرواية مثل علاقة الحب التي توقدت بها روح الراوي بطالبة الجامعة
"سماء"، هذه العلاقة التي صهر بها الراوي كل طاقته، لكن سماء قابلته بالصد
اللطيف فلم تتساير مع عواطفه، وترك الراوي أسباب سماء الخاصة بعدم الدخول في علاقة
الحب التي تأملها مجهولة، لكنه لم يقف عند لحظة الفراق بينه وبينها بل أكمل مسيرته
وترك الشوق والحنين بذرة تنمو في قلبه، قال: "بعد أعوام طويلة على فراقها،
زرت الجامعة، وكان الشيب قد اشتعل برأسي ..... أصرخ داخلي، مرت من هنا ومضت، لا
أدري إلى أين، ولكنها مضت" (ص: 236). كان مشهد افتراقهما خاتمة سردية الرواية
ومفتاح عنوانها: "افترقنا، سارت هي إلى البوابة الرئيسية للجامعة، وسرت أنا
إلى البوابة الشمالية... مشيت على الثلج، أصرخ بالكائنات من حولي، وحدي الآن في
العراء" (ص: 238).
عبرت نماذج الحب التي
جاءت في سردية الرواية عن حالات الانفعال العاطفي، وعن الميول والرغبات المتضاربة،
والنهايات المصيرية المؤلمة التي يتعرض لها أفراد المجتمع، وكان انعكاس التفاعل
الاجتماعي نتيجة طبيعية للمزيد من الخيبات، وفي الوقت ذاته مثلت للراوي محاولات
متجددة لاستعادة الذات والتغلب على الصعاب.
في حين كان الوصف
المكاني في سردية الرواية يكاد يضع القارئ في مشهد حقيقي للمكان الموصوف، سواء كان
في وصفه لمرافق الجامعة الأردنية، أو وصفه المشاهد المكانية في العقبة، أو توصيف
منطقة الأشرفية ووسط مدينة عمان. وهذا يعطي انطباعاً ثالثاً يؤيد فكرة تخفي الراوي
بثياب نصر ويضفي على الرواية انطباع السيرة الروائية إلى حد بعيد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق