
سخرت الروائية صفاء
الحطاب في روايتها "النبطي المنشود" عناصر فن الرواية لطرح موضوع مهم
للنقاش، استمد أهميته من الجذور البشرية الحية للإنسان العربي على جغرافيا لم
تتوفر لها فرص الحفاظ على مكتسباتها الحضارية بفعل التدخل البشري الأجنبي، الذي يخشى
أن تتأثر جيناته التكوينية بتقدم وازدهار الحضارة العربية.
كشفت الروائية صفاء
الحطاب عن اسم ودور الشخصية الحقيقية الذي استلهمت موضوع روايتها من سيرته
الشخصية، وهو الباحث الأردني "مأمون علي معمر النوافلة"، فاتخذت من اسمه
الثالث "معمر" اسماً لبطل الرواية، ولقبته "النبطي المنشود"
اللقب الذي تصدر اسم الرواية، فبدأت سردية الرواية بدراما خيالية تمثل سيرة بطل
الرواية وتأصل جذوره بالمكان الذي يمثل الحضارة النبطية، فأصبح "معمر"
نبطي المولد ونبطي الثقافة ونبطي الطموح، يتبنى مشروعاً وطنياً يرتكز في أساسه على
هدف إثبات "تطور الحضارة النبطية وتفوقها العلمي بين الحضارات القديمة،
ومحاولة الاستفادة من التطبيقات العلمية التي توصل إليها الأنباط، ثم سخروها
للتغلب على مشكلات حياتية حقيقية واجهتهم، وما زلنا نواجه بعضها إلى اليوم"
(ص: 24).
اتخذت الراوية أسلوب
التفاعل والموازنة لإضافة عنصر التشويق في سردية الرواية؛ لهذا وظفت شخصية
"الدكتورة المصرية سونيا" التي تتبنى مشروعًا مشابهًا لمشروع "معمر"
في الفكرة والهدف، تمثل هذا المشروع في إنكار حصر الاهتمامات البحثية والآثارية
المصرية في الشعائر الجنائزية، على حساب إهمال الكثير من الجوانب الحضارية المصرية
بالغة الأهمية، تحديداً ما تعلق منها بالتقدم الطبي. وهنا أثارت الراوية في
سرديتها الروائية تساؤلات طرحتها على لسان الدكتورة سونيا: "لا يمكن أن تكون
الحضارة المصرية حضارة جنائزية فقط، وحضارة تحتفل بالموت ولا تهتم بالحياة بنفس
الإبداع والتطور. ولم تكن تتوقف عن التفكير والتساؤل: كيف يمكن أن تُصنع كل تفاصيل
آثار الحضارة المصرية القديمة بغير علوم هندسية وفيزيائية وكيميائية وطبية
متطورة؟" (ص: 35، 36).
اختلاق شخصية الدكتورة
سونيا في سياق الرواية يضعنا أمام فكرة مبطنة تُفيد الإشارة إلى أن الهموم والمشكلات
العربية تكاد تتشابه بين مختلف الأقطار العربية. فالمعاناة التي يواجهها العربي
هذا يواجهها أخوه العربي في قطر آخر، سيما أن عناصر التأثير في الأول هي ذاتها
العناصر المؤثرة في الثاني.
ومن خلال سردية الرواية
نجد أن التفكير الخلاق الذي تبنى بطل الرواية الانطلاق منه لإعادة الألق والمكانة
للحضارة النبطية، مستمد من جهود الكشف العلمي ودراسة المصادر الأثرية، ولملمة ما
تناثر من معلومات وحقائق عنها في بطون الكتب، وتحقيق هذه المعلومات، وكشف ما دخل
عليها من تزييف مفتعل، وما لحقها من ضرر بعد التغلب الروماني ومحاولاته طمس
المعالم الحضارية النبطية، وإحلال منجزاته الحضارية محلها، ونسب ما تمكن نسبته من
الحضارة النبطية لحضارته، وهذا هو عين ما لاقته الحضارات الأخرى في الجغرافيا
العربية.
تضعنا الراوية في حجم
الصعوبات التي تعترض تحقيق أهداف مشروع بطل الرواية "معمر"، المتضمن
إثبات تفوق الحضارة النبطية في مختلف الجوانب العلمية، وأثر هذا التفوق في ازدهار
حضارتهم. إذ تذكر الراوية على لسان رئيس الباحثين قوله: "إعادة كتابة الرواية
التاريخية عن حضارة الأنباط، وتغيير ما رواه اليونان والرومان عنها، يحتاج إلى
جهود أكبر لجمع القطع الناقصة من الصورة الكلية لتلك الحضارة العظيمة، ثم إعادة
رواية قصة المكان من جديد" (ص: 77).
تعرضت الرواية في سرديتها
إلى قضايا مهمة تؤثر في مشاريع التصحيح التاريخي للمعلومات المتعلقة بالمنجزات
الحضارية، وبيان حقيقة دورها على مر التاريخ، التي من أبرزها:
التزوير التاريخي للأحداث والمنجزات الحضارية. قضايا سرقة القطع الأثرية
لغايات الاتجار بها، أو الاستحواذ عليها وعرضها في متاحف ومعارض خارج حدود البلاد
التي اكتشفت بها، أو تركها لتطولها يد التخريب والعبث.
والأكثر مرارة من ذلك أن يكون العائق أمام هذه الجهود التنافس
غير الشريف بين المهتمين في هذا المجال العلمي، وسعي كل منهم لتحقيق مكاسبه
الشخصية على حساب المنجز الحضاري الوطني.
قُدرة الراوية على تلمس
أبعاد المشكلة المطروحة في سردية الرواية وتقديمها بالأسلوب الذي قدمتها به، ينم
عن إدراكها الكامل بالجوانب الموضوعية المتعلقة بهذه المشكلة ومعرفة دقيقة
بخفاياها. يمكن أن يُعزَى هذا الإحكام الفكري في البنية السردية ومعالجة فكرة الرواية
للمجال العلمي الذي تشغله الراوية، المتعلق بدراسات الحضارات الشرقية القديمة، فتمكنت
من تكوين الفكرة الانطباعية، ومن ثم ترجمتها إلى رواية أدبية قدمتها بسلاسة متكاملة
وموجزة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق