31‏/01‏/2024

قراءة انطباعية في رواية باب الدروازة

    رواية باب الدروازة للأديب العراقي علي لفتة سعيد، صدرت عام 2022 عن دار الشؤون الثقافية العامة التابعة لوزارة الثقافة والسياحة والآثار في العراق، وحصلت على جائزة الإبداع العراقي في العام 2023.

    بدأت الرواية بمشهد فني صور حادثة انتقال فتى يتيم من بلدته الريفية في جنوب العراق "سوق الشيوخ" إلى مدينة بغداد. بدا هذا المشهد للوهلة الأولى في مخيلة الفتى نقلة نوعية كبيرة، فهذه المدينة ليست أي مدينة، بل هي العاصمة. لكن السردية الروائية فرضت على هذا الفتى حدودًا مكانية محصورة، تمثلت بمحيط منطقة باب الدروازة. وجعلت من هذا المحيط الهامشي شاهدًا على الأحداث المروية والمشاهد المتخيلة لمجمل الإطار الموضوعي في سردية الرواية. ومع ذلك، تضمنت الرواية إشارات متناثرة إلى مراكز مكانية خارج هذا المحيط المفترض، فكان "باب الدروازة هو المكان الذي يمكن أن يوصله إلى العالم أو يحصره في عالم آخر" (ص: 42).

    جاء التوظيف المكاني لخدمة أغراض السرد الروائي من خلال ربط المكان بظروف اجتماعية متداخلة، لها علاقة وثيقة بالتكوين النفسي لشخصيات الرواية التي مثلت نماذج اجتماعية، عبر كل منها عما ورائه. وحتى يسيطر الكاتب على اتجاهات شخصيات الرواية، ويحقق الهدف من اختلاقه لشخصياتهم، زاوج بين الصورة المتخيلة والصورة الواقعية. وظف الصورة المتخيلة لتشويق القارئ على القراءة، فانطلق من إثارة فضوله لمعرفة كل ما يتعلق بقصة "فتحية"، وكشف الميول السياسية لزوج خالته "سعيد"، والاطلاع على سر علاقة أم صلاح ببائع الأعشاب في سوق السربادي. في حين كانت الصورة الواقعية تمثل منعرجًا على جوانب من السيرة الذاتية، تعددت الإشارات الدالة عليها، منها مطلع سردية الرواية: "كان ذلك في صيف عام 1978، حينما وطأت قدماه أرض العاصمة بغداد" (ص: 5)، "لم يكن حينها قد أكمل عامه السادس عشر" (ص: 6)، "ولم يكن قادرًا على مغادرة يتمه المبكر" (ص: 7)، معاناته مع أسرته وزوجة والده، ووفاة والده، وانتقال شقيقه الأكبر إلى بغداد (ص: 33)، احتفاءه بحصول شقيقه على درجة الدكتوراه في عام 1980 (ص: 121).

   انحصر الإطار الزماني لسردية الرواية بين عامي 1978 و1979، حيث مثلت هذه الفترة حالة تعايش بطل الرواية الفتى "خلّاوي" مع الأحداث التي مرت به خلال إقامته في بغداد في خان اكتظ بساكنيه جاء تفصيل وصفه في متن الرواية (ص: 32). لكن مجمل البنية الموضوعية لسردية الرواية كانت تمثل حالة محاكاة للواقع السياسي في تاريخ العراق الحديث خلال الفترة الزمنية 1958-1980، التي بدأت بانقلاب 14 تموز 1958، الذي أطاح بالملكية، ومن ثم صراع الانقلابيين وتكرار انقلاباتهم العسكرية على الحكم حتى انتهت بوصول صدام حسين لمنصب رئاسة الجمهورية في 16 تموز 1979، وتزايد المخاوف من التدخل الأمريكي في المنطقة واتخاذها ميدانًا للتعامل مع الاتحاد السوفيتي، "العراق والمنطقة مقبلان على الانتحار .. إنها أمريكا ستقود القرن إلى الهلاك لتسيطر على العالم" (ص: 156). وانتهت سردية الرواية عند حدث مفصلي في تاريخ العراق تمثل باندلاع الحرب العراقية الإيرانية عام 1980.

    ابتعد كاتب الرواية عن السرد التاريخي المباشر للحوادث والمواقف التي مرت بالعراق خلال الإطار الزماني الذي قيد به حدود الرواية الزمنية، لذلك اختلق شخصيات متحركة في الرواية قادرة على الإشارة والترميز، تعبر عن التفاعل الاجتماعي في الشارع العراقي الذي تعايش مع هذه الحوادث والمواقف وتأثر بتبعاتها السياسية والنفسية والاقتصادية. كانت أبرز هذه الشخصيات شخصية "سعيد" الذي لعب دورًا مهمًا في سردية الرواية، لأنه كان يمثل صوت الحزب الشيوعي العراقي الذي كان على صلة بنظام الحكم في عهد الانقلاب الأول على الملكية، واستمرت هذه العلاقة حتى العام 1963، ليدخل بعدها في حالة الإقصاء السياسي، ثم في مرحلة صدام مع البعثيين، انتهت بالتنكيل والقتل والتشريد لأعضائه، وأخيراً حُظر الحزب في العراق عام 1979. ومنها شخصية "هادي" بائع السبح الذي يكتسي في الظاهر بثوب الوقار والإيمان، ويخفي شخصيته النزوة المنافقة، مسايرة للواقع، وابتعادًا عن أعين ورقابة النظام، في إشارة إلى المعارضة التي تتحين الفرص لتظهر للعلن.

أشارت سردية الرواية إلى واقع اجتماعي متأزم، تعلق بمناسك الزيارات التي تؤدى في المراقد والأماكن المقدسة، في إشارة إلى فلسفة خفية تبرر اندفاع طبقات المجتمع المهمشة للانغماس في التيار الروحي والإيماني، ترتكز بنيتها على عقيدة انهزامية أساسها: "إنه لجوء للتعويض عن الفقر والواقع والاحتماء بما هو غيبي" (ص: 12).

     رمز الراوي لعقدة الخوف الاجتماعية التي تتصادم مع أحداث الواقع بنباح الكلاب، لكن هذا النباح لا يتعدى صوته أذني الفتى خلّاوي، ولا يسمعه أحد من حوله، لكن تبعاته انعكست على المجتمع، حيث خلق خضوع الناس وتسليمهم بالأمر الواقع لتعدد آلهتهم: "آلهة الدين، وآلهة السياسة، وآلهة القدر" (ص: 118)"، الآلهة تتكاثر كلما زاد صمتكم... إنكم من تصنعون الآلهة، إنكم من تصنعون الدكتاتور" (ص: 239).

    كشفت سردية الرواية عند حديثها عن التحرش الذي تتعرض له النساء في الشوارع والزقاق والأسواق التجارية المزدحمة، ومن ثم فضحها قصة اغتصاب فتحية من قبل ابن عمها وصديقه، وقصة اغتصاب أم صلاح من قبل تاجر في محله التجاري في سوق السربادي، عن حالة تماهي أفراد المجتمع وتعايشهم مع واقعهم المرير رغم ما يحمله من جروح وآلام تفسد لذة الحياة، وجعل من محاولة تقرب فتحية من خلاوي دليل على ذلك، فعلى الرغم من جرحها الغائر والطعن في شرفها وهروب والدها بها من بلدتهم ليتجاوز مطالب أقاربه بقتلها وغسل عارهم، إلا أنها تعود لمغازلة خلاوي في دلاله على تعايشها مع واقعها الذي آلت إليه (ص: 178)، وكأن لسان الحال يقول ما إن يفلت العراق من بؤس يجره عليه العسكر حتى يعود في بؤس يجلبه له السياسيين، وينهي سردية الرواية بقولة: "إياك والانتماء إلى الأحزاب، حينها سيحل الخراب بك وبعمرك" (ص: 240)".


23‏/01‏/2024

قراءة انطباعية في رواية "الآن في العراء"

 

في الوقت الذي لملم فيه عام 2023 خيره وشره ليغادرنا إلى غير رجعة، صدرت رواية "الآن في العراء" للروائي الشاعر حسام الرشيد عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، أهداني نسخة منها ممهورة بتوقيعه، سعدت بها كثيرًا، فتفرغت لقراءتها وكتابة هذه القراءة الانطباعية عن إطارها الموضوعي، فقد جاءت الرواية في 239 صفحة من القطع المتوسط، قسمها الراوي إلى سبعة فصول تساوت تقريباً في عدد الصفحات، وأعطى لكل منها عنواناً يعكس انطباعه العاطفي عن تفاعل الأحداث في سردية الرواية.

عبرت أحداث الرواية عن أربعة محاور اجتماعية عاصرها جيل الآباء وجيل الأبناء، مثل المحور الأول حالة الصراع النفسي الداخلي لشخصيات الرواية، ومثلت العلاقات الأسرية محورها الثاني، ومثلت جماعة رفاق الدراسة محورها الثالث، في حين شكلت البيئة المحيطة بتأثيرها وتفاعلاتها المحور الرابع.

سرد الراوي في الفصل الأول الذي عنونه بـ "الشرارة الأولى" معاناته في إخراج مشروع روايته من خلجات نفسه إلى حبر فياض ينتظم كلمات وجملاً على الورق، يقول: "كان الهاجس بعدم القدرة على الكتابة، أشبه ما يكون بكابوس لعين، طاردني حتى في أحلامي" (ص: 16)، "كان رأسي يطن بأفكار لا نهاية لها (ص: 17).

تعرف بطل الرواية "نصر" على الروائي "إلياس" الذي طلب منه مساعدته في صياغة خاتمة روايته الأخيرة، في المقابل طلب نصر من إلياس قراءة ما كتبه من أوراق روايته ليقدم له النصح عله يخرج من حالة writer's block التي وصفها بداء عدم القدرة على الكتابة، لكن دُهِشَ نصر حين رأى أن إلياس لم يضف على ما قرأ من أوراق روايته إلا عبارة "لتنتظر الشرارة الأولى" كانت بالنسبة له عبارة محبطة لم يمهله القدر أن يعاتب إلياس عليها، في هذا الفصل من الرواية ندرك حقيقة ـــ وإن كانت تحتمل الخطأ ـــ أن كاتب الرواية تخفى في ثوب "نصر" وأن شخصية نصر مثلت شخصيته الحقيقية مصبوغة بشيء من الخيال والتمويه ليتحرر من تعظيم الذات في سردية الرواية، ولكي يتيح المجال للخيال أن يختلق مشاهد تخدم عنصر التشويق وتساعد في استرسال السرد الروائي لخدمة البناء الموضوعي في الرواية، يؤيد ذلك ما جاء في ديباجة الرواية: "سأكون كاذبا إن قلت لكم: ((إن الأسماء والأحداث والشخصيات هي من نسج الخيال...))".

ربط الراوي في سردية الرواية بين مشاركته في مراسم تشييع إلياس ودفنه وبين نصيحة إلياس له "لتنتظر الشرارة الأولى" من خلال تصوير مشهد عودته من مراسم التشييع ومروره بمكتبة كانت على طريقه إلى منزله، دخلها ينظر ما تعرضه من كتب، فجلب انتباهه فيها كتاب قديم تراكم عليه الغبار، فخالجته نفسه على شرائه، ففعل، ليكتشف أن هذا الكتاب هو الكتاب السنوي لخريجي الجامعة التي تخرج فيها، والمصادفة أن هذا الكتاب يحتضن صورة "سماء" الفتاة التي أحبها أيام دراسته في الجامعة. وبهذا المشهد دخل في تفاصيل سردية الرواية معنوناً فصلها الثاني بـ "الحب وراء الأشجار".

تعددت نماذج الحب التي وظفها الراوي في الرواية، فكان كل نموذج منها يمثل جانباً من جواهر الطرح الموضوعي في سردية الرواية، فقدم الراوي نموذجاً إيجابياً رائعاً لعلاقات أفراد أسرته المكونة من والده وشقيقته، مع الاحتفاظ بصورة ناصعة لعاطفة المحبة لوالدته المتوفاة، ولا يهز هذه الصورة إلا خلافات والده مع أعمامه بسبب تنازعهم على شيء من الميراث.

مثل النموذج الآخر من نماذج الحب علاقة العشق التي استهام بها صديقه في الجامعة "بهجت" بطالبة تدعى "ميادة"، انتهت هذه العلاقة بفاجعة وفاة ميادة بمرض السرطان، ووفاة بهجت في العراء بعد أن سلك طريق القتال في صفوف التنظيمات المقاتلة في أفغانستان، بعد أن ضاقت به الدنيا بفراق محبوبته ميادة.

مثل النموذج الثالث علاقة حب المصلحة التي تلاقت فيها مصالح صديقه "سليم" مع زميلة الدراسة "جيتان"، كان سليماً يطمح، على الرغم من فقره وعوزه، ليكون بارزاً في المجتمع من خلال الارتباط بزميلته جيتان ابنة المتنفذ، وبدورها كانت جيتان تستغل علاقة سليم بزملائه لتثنيهم عن معارضة الحرب المشتعلة في المنطقة والتي تصب منافعها في مصلحة والدها، لكن هذه العلاقة العاطفية فشلت لتنتهي بانتحار سليم في غرفته. وتكاد تكون الصورة الوصفية لقساوة الحياة الأسرية التي عاشها سليم تفطر القلب (انظر الرواية، ص 166).

النموذج الرابع من علاقات الحب الواردة في سردية الرواية مثلته "أمل" شقيقة الراوي، التي أخلصت في حبها لخطيبها "وعد" الذي غيّرته بهجة الدنيا بعد سفره للخارج بعقد عمل، فانحرف سلوكه وتغيرت أخلاقه لتواكب متطلبات العالم الجديد، وأصبح يتعذر كل عام عن إتمام مراسم زواجه من أمل بمشاغله والتزاماته، حتى قررت أمل تركه والتخلي عن عاطفتها الصادقة نحوه لتحافظ على كيانها ومستقبلها الشخصي.

النموذج الخامس من مشاعر الحب التي استفاضت فيها قريحة الراوي كانت في حب الوطن والعروبة والقومية وكل ما يربط الإنسان بأرضه وتاريخه الحضاري، فوظف حالة الحراك السياسي التي انتمى إليها بتأثير مشاعر والده الصادقة نحو تاريخه الشخصي، وتأثير صديقه "نجيب"، وتكاد تكون حالة التفاعل السياسي الاجتماعي هي المحدد الزمني لكل أحداث الرواية، والتي مثلت حالة التحول السياسي في الأردن من فترة الحكم العرفي إلى النهج الديمقراطي في أواخر عقد الثمانينيات وأوائل عقد التسعينيات. وهنا مصيدة ثانية ترجح الشك في تخفي كاتب الرواية في ثوب "نصر"، الذي كان في العام 1989 في سن التاسعة عشرة من عمره، وأحد طلبة السنة الأولى في كلية الحقوق بالجامعة الأردنية.

النموذج السادس الذي شكل جوهر الرواية مثل علاقة الحب التي توقدت بها روح الراوي بطالبة الجامعة "سماء"، هذه العلاقة التي صهر بها الراوي كل طاقته، لكن سماء قابلته بالصد اللطيف فلم تتساير مع عواطفه، وترك الراوي أسباب سماء الخاصة بعدم الدخول في علاقة الحب التي تأملها مجهولة، لكنه لم يقف عند لحظة الفراق بينه وبينها بل أكمل مسيرته وترك الشوق والحنين بذرة تنمو في قلبه، قال: "بعد أعوام طويلة على فراقها، زرت الجامعة، وكان الشيب قد اشتعل برأسي ..... أصرخ داخلي، مرت من هنا ومضت، لا أدري إلى أين، ولكنها مضت" (ص: 236). كان مشهد افتراقهما خاتمة سردية الرواية ومفتاح عنوانها: "افترقنا، سارت هي إلى البوابة الرئيسية للجامعة، وسرت أنا إلى البوابة الشمالية... مشيت على الثلج، أصرخ بالكائنات من حولي، وحدي الآن في العراء" (ص: 238).

عبرت نماذج الحب التي جاءت في سردية الرواية عن حالات الانفعال العاطفي، وعن الميول والرغبات المتضاربة، والنهايات المصيرية المؤلمة التي يتعرض لها أفراد المجتمع، وكان انعكاس التفاعل الاجتماعي نتيجة طبيعية للمزيد من الخيبات، وفي الوقت ذاته مثلت للراوي محاولات متجددة لاستعادة الذات والتغلب على الصعاب.

في حين كان الوصف المكاني في سردية الرواية يكاد يضع القارئ في مشهد حقيقي للمكان الموصوف، سواء كان في وصفه لمرافق الجامعة الأردنية، أو وصفه المشاهد المكانية في العقبة، أو توصيف منطقة الأشرفية ووسط مدينة عمان. وهذا يعطي انطباعاً ثالثاً يؤيد فكرة تخفي الراوي بثياب نصر ويضفي على الرواية انطباع السيرة الروائية إلى حد بعيد.

15‏/01‏/2024

قراءة في رواية النبطي المنشود

سخرت الروائية صفاء الحطاب في روايتها "النبطي المنشود" عناصر فن الرواية لطرح موضوع مهم للنقاش، استمد أهميته من الجذور البشرية الحية للإنسان العربي على جغرافيا لم تتوفر لها فرص الحفاظ على مكتسباتها الحضارية بفعل التدخل البشري الأجنبي، الذي يخشى أن تتأثر جيناته التكوينية بتقدم وازدهار الحضارة العربية.
كشفت الروائية صفاء الحطاب عن اسم ودور الشخصية الحقيقية الذي استلهمت موضوع روايتها من سيرته الشخصية، وهو الباحث الأردني "مأمون علي معمر النوافلة"، فاتخذت من اسمه الثالث "معمر" اسماً لبطل الرواية، ولقبته "النبطي المنشود" اللقب الذي تصدر اسم الرواية، فبدأت سردية الرواية بدراما خيالية تمثل سيرة بطل الرواية وتأصل جذوره بالمكان الذي يمثل الحضارة النبطية، فأصبح "معمر" نبطي المولد ونبطي الثقافة ونبطي الطموح، يتبنى مشروعاً وطنياً يرتكز في أساسه على هدف إثبات "تطور الحضارة النبطية وتفوقها العلمي بين الحضارات القديمة، ومحاولة الاستفادة من التطبيقات العلمية التي توصل إليها الأنباط، ثم سخروها للتغلب على مشكلات حياتية حقيقية واجهتهم، وما زلنا نواجه بعضها إلى اليوم" (ص: 24).

اتخذت الراوية أسلوب التفاعل والموازنة لإضافة عنصر التشويق في سردية الرواية؛ لهذا وظفت شخصية "الدكتورة المصرية سونيا" التي تتبنى مشروعًا مشابهًا لمشروع "معمر" في الفكرة والهدف، تمثل هذا المشروع في إنكار حصر الاهتمامات البحثية والآثارية المصرية في الشعائر الجنائزية، على حساب إهمال الكثير من الجوانب الحضارية المصرية بالغة الأهمية، تحديداً ما تعلق منها بالتقدم الطبي. وهنا أثارت الراوية في سرديتها الروائية تساؤلات طرحتها على لسان الدكتورة سونيا: "لا يمكن أن تكون الحضارة المصرية حضارة جنائزية فقط، وحضارة تحتفل بالموت ولا تهتم بالحياة بنفس الإبداع والتطور. ولم تكن تتوقف عن التفكير والتساؤل: كيف يمكن أن تُصنع كل تفاصيل آثار الحضارة المصرية القديمة بغير علوم هندسية وفيزيائية وكيميائية وطبية متطورة؟" (ص: 35، 36).

اختلاق شخصية الدكتورة سونيا في سياق الرواية يضعنا أمام فكرة مبطنة تُفيد الإشارة إلى أن الهموم والمشكلات العربية تكاد تتشابه بين مختلف الأقطار العربية. فالمعاناة التي يواجهها العربي هذا يواجهها أخوه العربي في قطر آخر، سيما أن عناصر التأثير في الأول هي ذاتها العناصر المؤثرة في الثاني.

ومن خلال سردية الرواية نجد أن التفكير الخلاق الذي تبنى بطل الرواية الانطلاق منه لإعادة الألق والمكانة للحضارة النبطية، مستمد من جهود الكشف العلمي ودراسة المصادر الأثرية، ولملمة ما تناثر من معلومات وحقائق عنها في بطون الكتب، وتحقيق هذه المعلومات، وكشف ما دخل عليها من تزييف مفتعل، وما لحقها من ضرر بعد التغلب الروماني ومحاولاته طمس المعالم الحضارية النبطية، وإحلال منجزاته الحضارية محلها، ونسب ما تمكن نسبته من الحضارة النبطية لحضارته، وهذا هو عين ما لاقته الحضارات الأخرى في الجغرافيا العربية.

تضعنا الراوية في حجم الصعوبات التي تعترض تحقيق أهداف مشروع بطل الرواية "معمر"، المتضمن إثبات تفوق الحضارة النبطية في مختلف الجوانب العلمية، وأثر هذا التفوق في ازدهار حضارتهم. إذ تذكر الراوية على لسان رئيس الباحثين قوله: "إعادة كتابة الرواية التاريخية عن حضارة الأنباط، وتغيير ما رواه اليونان والرومان عنها، يحتاج إلى جهود أكبر لجمع القطع الناقصة من الصورة الكلية لتلك الحضارة العظيمة، ثم إعادة رواية قصة المكان من جديد" (ص: 77).

تعرضت الرواية في سرديتها إلى قضايا مهمة تؤثر في مشاريع التصحيح التاريخي للمعلومات المتعلقة بالمنجزات الحضارية، وبيان حقيقة دورها على مر التاريخ، التي من أبرزها: التزوير التاريخي للأحداث والمنجزات الحضارية. قضايا سرقة القطع الأثرية لغايات الاتجار بها، أو الاستحواذ عليها وعرضها في متاحف ومعارض خارج حدود البلاد التي اكتشفت بها، أو تركها لتطولها يد التخريب والعبث. والأكثر مرارة من ذلك أن يكون العائق أمام هذه الجهود التنافس غير الشريف بين المهتمين في هذا المجال العلمي، وسعي كل منهم لتحقيق مكاسبه الشخصية على حساب المنجز الحضاري الوطني.

قُدرة الراوية على تلمس أبعاد المشكلة المطروحة في سردية الرواية وتقديمها بالأسلوب الذي قدمتها به، ينم عن إدراكها الكامل بالجوانب الموضوعية المتعلقة بهذه المشكلة ومعرفة دقيقة بخفاياها. يمكن أن يُعزَى هذا الإحكام الفكري في البنية السردية ومعالجة فكرة الرواية للمجال العلمي الذي تشغله الراوية، المتعلق بدراسات الحضارات الشرقية القديمة، فتمكنت من تكوين الفكرة الانطباعية، ومن ثم ترجمتها إلى رواية أدبية قدمتها بسلاسة متكاملة وموجزة.

08‏/01‏/2024

قراءة انطباعية في رواية دفاتر الوراق

 


تفجرت القدرة الروائية الفائقة للروائي الأردني جلال برجس في عمله المميز دفاتر الوراق، التي صدرت في عام 2020، وذهبت الرواية مباشرة في طريق الترشح ثم الفوز في جائزة بوكر العربية 2021. أتاحت وزارة الثقافة الأردنية فرصة اقتناء مجلد الرواية من خلال برنامج مكتبة الأسرة الأردنية "القراءة للجميع 17".

تكاد تكون رواية "دفاتر الوراق" خليطًا من المشاعر الإنسانية المحسوسة والمفتعلة، التي وظفت لبناء تصور خيالي على ركام ثقافة اجتماعية معاشة، واستلهام رقيق لكثير من الحوادث اليومية بنفسية منغمسة بالمشاعر في كل تقلباتها: حزن، كآبة، خوف، رجاء، لتصوير لوحة خيالية مفعمة بعناصر الحركة المعبرة، تضعنا أمام مشاهد تُمثل واقعًا اجتماعيًا للحدود المكانية التي تدور فيها أحداث الرواية.

قسم الراوي سياق الرواية إلى سبعة فصول، وقسم الفصول لعناوين فرعية خدمت السردية الروائية بشكل كبير، ساعد هذا التقسيم في جذب اهتمام القارئ وتشويقه لكشف حبكات الرواية، من خلال فصل مسارات شخصيات الرواية عن بعضها، مع قدرة فنية في الأسلوب الروائي مكنت الراوي من المحافظة على الانتقال السلس بين الأحداث المتقاطعة لشخصيات الرواية.

ختم الراوي كل فصل من الفصول الفردية في الرواية بعنوان فرعي سماه "كابوس" عدا الفصل السابع، الفصل الأخير من الرواية، صور في كل "كابوس" حالة من حالات الفجيعة والمصير الأسود المتخيل لشخصيات الرواية التي ينقم منها في سرديته الروائية، أما الفصل السابع، على اعتبار أنه من الفصول الفردية من الجهة العددية، فقد مثل في إطاره العام حالة من المكاشفة الحقيقة للعيان، فتم التحقق من شخصية بطل الرواية، ومواجهته بواقع عاشه بين حالات الوعي والإدراك، وبين حالات الانفصام واللاشعور، فكانت هذه رمزية جديرة بالملاحظة تحسب للراوي الذي تمكن من إخراج سردية روائية ذكية تلفت انتباه القارئ.

مثلت أحداث الرواية حالة تعاقب ثلاثة أجيال في مجتمع شهد تقلبات ثقافية وسياسية واقتصادية وتطورات مختلفة شملت جميع جوانب الحياة الاجتماعية، عاشت هذه الأجيال حالة من العوز والقلق والتهميش، وتقاطعت مصالح كل جيل منها مع مصالح الطبقة المترفة التي عاصرتها، وفي كل مرة ومع كل جيل، كانت الطبقة المهمشة أكثر عرضة للانكسار.

مثلت شخصية "محمود الشموسي" الجيل الأول من أجيال شخصيات الرواية، انطلقت تفاصيل حياة هذه الشخصية من فاجعة حياته وتحطم أحلامه وخيبة أمله، ومن تراكم هذه التفاصيل، تشعبت أسس سردية الرواية، وظف الراوي شخصية "الصحافية" المنتمية للجيل الثالث من أجيال شخصية الرواية، لتخبرنا بقصته التي تنقلها لنا من دفتر ابنه "جادالله"، صاحب الشخصية القلقة المرتجفة التي قاست مشاعر تحطم الطموح، وكسر الشوكة، واهتزاز الشخصية، وآلت إلى جثة حكم صاحبها عليها بالموت انتحارًا، وكان جادالله هذا بدوره يمثل الجيل الثاني من أجيال شخصيات الرواية.

أما السردية الروائية لشخصيات الرواية من الجيل الثالث، فكانت تمثل حالة من حالات الدخول المباشر في ثقافة اجتماعية حديثة بكل ما وصلت إليه من رفاه وتقنية وانفلات أخلاقي وسلوكي، تنساب أوصافها ونقل أحداثها لنا على لسان "إبراهيم" بطل الرواية، والعقدة العصبية التي ستعود إليها كل خيوط اتصال الرواية التي تشعبت لتلتقي معه وتخدم قضيته. و"ليلى" التي ستكون مفتاح التحقق وكسر الغموض الذي لف شخصية "الملثم"، والذي بدوره كان يمثل الشخصية الانفصامية لبطل الرواية "إبراهيم". وشخصية "الصحفية" التي لعبت في الرواية إلى جانب هذه الشخصية دور نادلة في مطعم. ومن ثم شخصية غامضة "السيدة نون" والتي تكشف سردية الرواية عند تفكيك حبكتها أنها هي ذاتها السيدة "ناردا" زوجة والد بطل الرواية "جادالله". لم تقتصر الرواية على هذه الشخصيات، بل كان هناك شخصيات أدت وظائف درامية في سردية الرواية، مثلت حالة انعطافية من حالات التقلب الاجتماعي بكل أوجاعه ومعاناته.

هذه التركيبية في البناء الموضوعي التي اتبعها الراوي في طرحه الموضوعي لسردية الرواية، تقود القارئ إلى التعايش مع البيئة الاجتماعية التي تدور فيها أحداث الرواية، وتجعله على صلة وعلاقة عاطفية مع شخصيات الرواية، فيشفق عليها أحيانا، وينكر عليها أحيانا، ويتفهمها ويعذرها أحيانا أخرى، وذلك بتأثير القدرة المميزة التي أتقن الراوي تصويرها وبث الحركة فيها، وقدرته على دمج القارئ في تخيل مسارات الحياة الاجتماعية كما رسمها أو خطط لها.

يلفت الانتباه في سردية الرواية قدرة الراوي على ترجمة الإشارات الذهنية التي تدور في مخيلته وتوظيفها في النص الذي قدمه، فكان يستقبل الخبر أو الحدث الذي ينتشر موضوعه في المجتمع على حقيقته، ثم يخلخل هذه الحقيقة بصورة متخيلة يوظفها في سردية الرواية، يظهر هذا الجانب في حوادث كثيرة تناولتها الرواية، منها قصة السطو على البنوك. أما الزوايا الخارجة عن حدود الخيال التي تم توظيفها وصفًا في الرواية، فتمثل مشاهد مسترجعة من مخزون حقيقي مدرك في ذاكرة الراوي، يتبين ذلك من أسلوب حديثه عن الوصف المكاني لمناطق في مادبا أو في عمان.

لم تنحصر القدرة الأدبية للراوي في حدود الخيال الذهني في سردية الرواية، بل استطاع استرجاع المخزون الثقافي الذي انغمست فيه روحه الروائية وتوظيفه في خدمة سردية الرواية، دل على ذلك تقمصه شخصيات لعبت دور البطولة في روايات مطبوعة كل تفاصيلها ومشاهدها في ذاكرته.

بدأت حكايات الدفاتر من هدية قدمتها امرأة "للوراق" بطل الرواية، لم يذكر عنها أي شيء سوى أنه لم يخف فورة شعورية اجتاحت روحه بكل أَفضِيتها، "فعرفت أن للحب يداً قادرة على انتشال غريق يلفظ نفسه الأخير في بحر هذه الحياة" (ص: 11).

والدفتر الثاني دفتر مذكرات يعود لمرأة كانت جالسة على حافة الجسر الخشبي الذي كان مفترضًا أن يلقي بطل الرواية بنفسه من أعلاه إلى ماء البحر لينهي حياته، لكن روحانية الانجذاب لهذه المرأة انعكس تأثيرها عليه، فانثنت عزيمته عن الانتحار، هذه المرأة لم يعرف عنها سوى الحرف الأول من اسمها (نون) وأنها كانت تهبط إلى وسط البلد مشياً على الأقدام، ستكون هذه المرأة راوية مذكرات جادالله من خلال دفتر مذكراته الذي وجدته على طاولة المقهى الذي تعمل به، وهو الدفتر الثالث من دفاتر الرواية.

أما الدفتر الرابع فهو دفتر مذكرات بطل الرواية الذي تضمن ما كتبه في ثلاثة مواضع من سردية الرواية تحت عنوان "كابوس"، فكان دليل إدانته أمام القضاء. أما خامس الدفاتر وآخرها فهو الدفتر الذي أهدته له "ناردا" طليقة والده، والذي قال فيه: "ها أنا أفرغت كل ما بي على بياض ورق دفتر وجدته أعظم هدية قدمتها لي ناردا التي تأتي مرتين في الأسبوع لزيارتي... هذا اليوم هو موعد زيارتها لي، سأسلمها هذا الدفتر، مثلما سلمتها باقي الدفاتر. لكنني لست متأكدًا من قناعتي بتسليمها دفترًا دونت فيه كوابيس..." (ص: 366).

كانت الدفاتر الخمس الذاكرة الحية للبنية السردية في الرواية التي تنطق بها شفتا "الوراق" بطل الرواية، وكانت شخصية "ناردا" الروح الإنسانية الوقادة بالأمل في بناء الجانب العاطفي الطاغي في الرواية.