تمثل روايات محمد شكري الثلاث: (الخبز
الحافي، والشطار، ووجوه)، سيرته الذاتية، يتحدث فيهن عن واقع الحياة الاجتماعية
التي عاصرها، بأسلوب روائي مباشر، تخطى في سرده للأحداث والتجارب التي مرت به حدود
الخجل والجرأة.
يقول الدكتور صبري حافظ في مقال له ــ
ملحق في آخر رواية الشطار ــ بعنوان (البنية النصية لسيرة التحرر من القهر): "وإذا
كانت الحداثة وما بعد الحداثة تعمد إلى انتهاك المحرمات والعصف بكل الحواجز
والحدود، فليس ثمة نص في أدبنا الحديث أشد جرأة في انتهاكه للمحرمات اللغوية
والاجتماعية والجنسية من سيرة شكري" (ص 224).
في رواية الخبز الحافي انصب الاهتمام في سردية الرواية على العلاقة الأسرية للكاتب بوالديه، فمن جهة الأم كان يكن لها المحبة والاحترام لشعوره بعاطفة حنانها عليه، أما والده فكان في نظره شخصية مقيته مجرمة يتمنى الخلاص منه بالموت أو السجن أو أي طريقة كانت، لما كان يقوم به من ضرب وركل له ولأمه لأي سبب، وقيامه بقتل أخيه الأصغر أمام عينيه، وحيرته كانت من استمرار علاقة والده بوالدته رغم كل ما تقاسي من خشونة طبعه وتجبره المقيت عليها وعلى ابنائها، ثم يعود مفسراً سبب ديمومة العلاقة بينهما يعتمد على قدرة والده على مراضاة أمه بتبعات العلاقة الزوجية، فمع كل مشكلة تحصل يتوقع ولادة مولود جديد للأسرة.
يصف شدة الجوع التي كان يقاسي منها وهو
في سن السابعة، ويصف أيضاً حال فقراء ريف (إقليم الناظور)، الأمر الذي دفع الكثير
من عوائل الريف إلى هجرته في العام 1942م، وتوجهوا إلى مدينة طنجة ــ والتي سيكون
لها الدور المهم في سيرة حياته كلها ــ ولم يكن الحال في طنجة على الصورة التي
كانوا يحلمون بها، ففي هذه المدينة بدأت حياة التشرد والعوز، وأن لم يكن بحد الموت
من الجوع كما حدث لخاله الذي مات من الجوع في الريف، لأنه في هذه المدينة إن لم
يجد عملاً فأنه لا يترفع عن أكل كل ما يمكن أن يتحصل عليه من القمامة.
تتطور معه الأمور مع تزايد عدد السنين
التي تمر من عمره، ليعمل أجيراً في مقهى شعبي، يأتي والده ليقبض أجرته ويتركه
يتدبر أمره بالسرقة، التي أصبحت سلوكاً يألفه، ومن ذلك المقهى دخل إلى عالم
التدخين والحشيش، والخمر، فانطبعت سمة سلوكه بالانحراف والتشرد والذي كان يعد
وقتها حالة طبيعية لكل من هو في مثل ظروفه الاجتماعية، وتنوعت طبيعة الأعمال التي
مارسها لكسب قوت يومه، فعمل بائعاً للسجائر المهربة، وبائعاً للصحف، وعمل بائعاً
للنثريات في الميناء، وأجيراً في معمل، فلم يكن يترفع عن أي عمل يمكنه القيام به،
ولم يكن مضطراً لتحمل ظروف أي عمل والاستمرار به إن لم يرغب بذلك.
ومع وصوله سن البلوغ كان سلوكه
الاجتماعي يدفعه نحو اشباع غريزته الجنسية، وهنا تكون سيرة محمد شكري وصفية حد المشاهدة
الحسية، متحدثاً عن تجاربه مع النساء، وبيوت الدعارة، والخمارات، وحياة التشرد
والنوم في أي مكان يتسع جسده المنهك، مقبرة كانت، أو مقعد على رصيف، أو جدار مخبز،
المكان لا يهم عند المتشرد، المهم عنده ألا تصل إليه يد رجال الشرطة لتعتقله، أو
يد لص ينتشل منه ما يكون معه من قطع نقدية، أو حتى بعض ملابسه، أو يتعرض للاغتصاب
إن أفلسوا ولم يجدوا معه شيء يستفيدون منه.
في رواية الشطار، واصل محمد شكري سرد
أحداث حياته الاجتماعية، مع التركيز على ناحية مهمة أدت إلى ولادة شخصية ثقافية
مغربية لها بصمتها في المسيرة الأدبية العربية، فقد أصبح تلميذاً رغم بلوغة
العشرين من العمر، وهذا التحول في حياته ساعده في التخلص من بعض السلوكيات التي
اعتادها فلم يعد يحتاج للسرقة في تدبر أمور نفقاته، لم يعد يحتاج لاستعراض عضلاته
في حل مشاكله اليومية، أصبح منكباً على القراءة وتوسيع مدركاته الثقافية.
لا تبحث السيرة الروائية لمحمد شكري
في رواياته الثلاث في محاولات إظهار أثر التطور الثقافي للشخص في سلوكياتهأ أو في
محاولة التعذر بالجهل واعتباره سبباً للانحراف السلوكي للفرد، لهذا يقول في رواية
وجوه: "لا يمكن معرفة كل شيء عما يمكن أن تؤثر به طفولة الكاتب على كتابته،
فهو يكتب طفولته من خلال رجولته ونضجه" (ص 152)، بل إن السردية الروائية
للسيرة الذاتية كما خطها محمد شكري كانت تتجه لإثارة فضول القارئ لمعرفة تفاصيل
حياته، مدركاً أن الحديث عن مثل هذه الموضوعات الإنسانية بهذه السردية الروائية هو
عنصر مهم من عناصر نجاح مسيرته الأدبية، وهذا يمكن تصوره من تعمد العودة في كل مرة
يكتب فيها عن سيرته لذات المواضيع المثيرة للفضول، فقد كتب رواية "الشطار"
بعد سنين من كتابة رواية "الخبز الحافي"، ثم بعد ذلك عاد ليكتب رواية "وجوه"
والتي تدور قصص أبطالها في ذات المدار السردي المليئ بالتصوير التمثيلي للجنس،
والتي يقول فيها: "اسفاً للذين يكتبون ولا يملكون ذاكرة مبدعة لعينة، إن كل
كتابة مغوية تحمل سر الاعجاب بها أو إهمالها" (ص 10).
من خلال الاطلاع على السيرة الروائية
لمحمد شكري في رواياته الثلاث تجد أن المحاور الموضوعية محصورة في رباعية
"التشرد، الجنس، الخمور، الحشيش" وكان سرد محمد شكري تصويري فاضح
لسلوكياته الشخصية دون الالتزام بأي قيود أو محددات أخلاقية أو دينية أو اجتماعية
في عرض السردية الروائية، وهذا الانفلات لم يضف أي فائدة أدبية للعمل الروائي
العربي، لكنه كسر حاجز الخوض الصريح في التجارب الشخصية والكتابة العفوية عن
الواقع الاجتماعي بدون اعتبار لأي قيود أو محددات. وخلاصة القول إن روايات محمد
شكري الممثلة لسيرته الذاتية ينطبق عليه القول: "لا مدحها يُجدي ولا ذمها".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق