21‏/05‏/2023

الثقافة الظنية

     يتكون المخزون الثقافي للفرد من خلال تراكمات معرفية، يمكن اكتسابها من مصادر التلقي المتعددة، كالمطالعة، أو السماع، أو المشاهدة، وهذه التراكمات المعرفية تشكل في مجموعها أساس المعرفة الإدراكية للفرد، ومنها تبدأ انطلاقة تفكيره المستقل، والذي يمكن أن يتجه باتجاهات التفكير التحليلي الاستنتاجي، أو نحو تطوير مهارات التفكير القياسي، أو حتى خلق تصورات خيالية معبرة عن الفكرة التي يحاول انتاجها، لهذا كان للتعليم أهميته في صقل شخصية الفرد، سيما أن التعليم يتكون من منظومة متكاملة مترابطة، تبدأ من إعداد المعلم، ثم المنهج التعليمي، وتوفير بيئة تعليمية مناسبة، وصولاً لمخرجات العملية التعليمية، التي تكون عادةً متوافقة مع البيئة الاجتماعية بكل مكوناتها الثقافية، والسياسية والاقتصادية، والأمنية في الدولة.

    ونتيجة للتطورات الكبيرة في مجالات الاتصالات المختلفة، طرأت تغيرات في طريقة اكتساب المعارف، واتساع بيئة التأثر الاجتماعي، إذ أصبحت السمة العامة للمعارف المكتسبة لدى الأفراد من خلال وسائل التواصل الاجتماعي تعتمد على الايجاز والاختصار، ممثلة في: الرسائل القصيرة ــ صوتيه كانت أو نصية ــ أو مقاطع الفيديو، أو الصور. وهنا تتجذر المشكلة، فالفرد يعتاد الاطلاع على معلومة مجتزأة، وبالتدريج تحل هذه الصورة الجديدة من المعرفة محل مهارات المطالعة الفردية، ويتلاشى الدور الرقابي على نوع المعرفة المتبادلة بين الأفراد وضبط المحتوى التفاعلي، ويغيب الدور الإشرافي والتوجيهي في بناء شخصية الفرد السلوكية والمعرفية.

    إلى جانب هذا الانقلاب على طريقة اكتساب المعارف، نجد أن المعلومة المجتزأة التي يكون مصدرها وسائل التواصل الاجتماعي، لا يتم إيلائها الأهمية الكافية في البحث عن مصدرها، أو تحري دقتها، علاوة على ذلك يحتاج الفرد إلى توضيحها، فيقوم بإدراج التفسيرات المتممة لمعناها من خلال التخمين، أو الحدس، وهنا يتم تنمية معرفة ظنية لإتمام البنية الموضوعية للحدث، الذي اُخذت المعلومة المجتزأة عنه من وسائل التواصل الاجتماعي، وفي هذه الحالة نكون أمام معلومة غير مقطوع بصحتها، ثم تصور ظني لتفسيرها، يصاحب ذلك سرعة في انتشارها، وعدم القدرة الكاملة على تدارك أي خطأ ينتج عن ذلك التفسير الظني، وبذلك تكون الثقافة المكتسبة من هذه التراكمية المعرفية ثقافة ظنية.

    هذا التحول في الثقافة الفردية من ثقافة تعليمية منظمة، إلى ثقافة ظنية، نتيجة تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، لا يعني غياب الثقافة التعليمية المنظمة غياباً كاملاً، لكن قدرة وسائل التواصل الاجتماعي التأثيرية ستوسع الفجوة بين الثقافة التعليمية المنظمة، التي ترعاها المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، في مواجهة الثقافة الظنية مفتوحة المصادر والاتجاهات، وهذه الفجوة التي تزداد اتساعاً، ستكون على حساب المخزون الثقافي للفرد، وبالتالي نجد أمامنا صورة ضبابية مركبة من معارف كثيرة ومتزايدة في كل مجال معرفي نتيجة التطور في وسائل نقل المعرفة، لكن القيمة العلمية لهذ الكم المتزايد محل شك، والأخذ به دون وعي وتحري الدقة يؤدي إلى مزيد من التخلف، والجهل، واضاعة الفرص والوقت.

15‏/05‏/2023

الذكرى 75 للنكبة الفلسطينية

 

    أُرخت النكبة الفلسطينية بإعلان قيام دولة إسرائيل في 15 أيار من عام 1948م، ومنذ ذلك اليوم قامت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على تهجير الفلسطينيين من الأراضي الفلسطينية، وتوسيع رقعة دولتهم الجغرافية على حسابهم، لكن علينا الاعتراف بأن النشطاء اليهود حول العالم بدأوا العمل على إقامة الدولة اليهودية على الأراضي الفلسطينية في وقت مبكر وخططوا لهذا الهدف بشكل صحيح، وهذا ما يمكن أن ندركه من خلال الوقوف على مضامين كتيب "دولة اليهود" الذي قدم من خلاله تيودور هرتزل رؤيته الموضوعية في كيفية العمل على إقامة الدولة اليهودية، إذ نجد أن العمل اليهودي امتاز بالمؤسسية والمسؤولية، لتحقيق أهدافهم، في حين كان العرب يعيشون حالة من التخلف السياسي والاقتصادي، والعسكري، ولم يكن لديهم رؤية واضحة متفق عليها لمواجهة الأخطار التي بدأت تطل عليهم منذ وصول الاتحاديين للحكم في مقر الخلافة الإسلامية التي كانت في حالة احتضار، وانقلابهم على السلطان عبد الحميد الثاني عام 1909م.

ومع انطلاقة شرارة الحرب العالمية الأولى تعاون العرب مع الانجليز وحلفائهم، وفي الوقت ذاته تعاون اليهود مع الانجليز، فخرج العرب بدويلات قطرية غير قادرة على التعايش المستقل في المجتمع الدولي، في حين اثمرت العلاقات اليهودية البريطانية في استصدار تصريح بلفور الشهير، وتثبيت أقدام اليهود في فلسطين، فخرج اليهود بدولة تكاد تصل لحد الاكتفاء الذاتي في كل مجال.

كانت سمة الخلاف والتشكيك في حسن النوايا، السمة العامة الطاغية بين الكيانات العربية التي قُدر لها أن تتصدى للخطر اليهودي على الأراضي الفلسطينية ــ ومن المؤسف القول بأن هذا الحال مستمراً حتى وقتنا الحاضرــ في حين عمل اليهود بشكل مؤسسي منظم لمواجهة التحديات العربية، وتمكنوا من فرض وجودهم بالتعاون مع مؤسسات المجتمع الدولي، وتوظيف الإعلام لخدمة مصالحهم الرامية لتأسيس الدولة اليهودية في فلسطين، فكانت الخبرات السياسية، والقانونية، رديفاً مهماً للقدرات العسكرية التي يملكونها في بناء الدولة اليهودية.

كانت البداية رؤية يهودية عام 1897م، وفق ما جاء على لسان تيودور هرتزل: "في بازل أسستُ الدولة اليهودية. ولو أنني قلت هذا اليوم لواجهتي ضجة من الضحك. وسيراها الجميع ربما في مدة خمس سنين، وبالتأكيد في مدة خمسين سنة. إن الدولة قد تأسست من حيث الجوهر، في إرادة شعب الدولة.... إن هدف الصهيونية هو أن يتحقق للشعب اليهودي وطن في فلسطين يضمن وجوده قانون عام" (دولة اليهود: ص 21).

بالتخطيط والعمل المؤسسي كان لليهود ما أرادوا، ومن وجهة نظر تشاؤمية يمكن القول أن العرب اليوم لا يملكون سوى فرصة ضعيفة في أن تراودهم الأحلام لاستعادة الأراضي الفلسطينية المحتلة، لأن الواقع العربي لا يقدم خطط مدروسة بعناية، وفق رؤية مستقبلية منظمة، في سياقات عمل جماعي موحد، لمواجهة تحديات وجود دولة يهودية مزروعة في قلب العالم العربي، لهذا فإن الإمكانات المتاحة للعرب تنحصر في وضع شعار جديد يعبر عن الغضب العربي من الدولة اليهودية بمناسبة الذكرى السنوية للنكبة الفلسطينية.

06‏/05‏/2023

السيرة الروائية للكاتب المغربي محمد شكري

 

تمثل روايات محمد شكري الثلاث: (الخبز الحافي، والشطار، ووجوه)، سيرته الذاتية، يتحدث فيهن عن واقع الحياة الاجتماعية التي عاصرها، بأسلوب روائي مباشر، تخطى في سرده للأحداث والتجارب التي مرت به حدود الخجل والجرأة.

يقول الدكتور صبري حافظ في مقال له ــ ملحق في آخر رواية الشطار ــ بعنوان (البنية النصية لسيرة التحرر من القهر): "وإذا كانت الحداثة وما بعد الحداثة تعمد إلى انتهاك المحرمات والعصف بكل الحواجز والحدود، فليس ثمة نص في أدبنا الحديث أشد جرأة في انتهاكه للمحرمات اللغوية والاجتماعية والجنسية من سيرة شكري" (ص 224).

     في رواية الخبز الحافي انصب الاهتمام في سردية الرواية على العلاقة الأسرية للكاتب بوالديه، فمن جهة الأم كان يكن لها المحبة والاحترام لشعوره بعاطفة حنانها عليه، أما والده فكان في نظره شخصية مقيته مجرمة يتمنى الخلاص منه بالموت أو السجن أو أي طريقة كانت، لما كان يقوم به من ضرب وركل له ولأمه لأي سبب، وقيامه بقتل أخيه الأصغر أمام عينيه، وحيرته كانت من استمرار علاقة والده بوالدته رغم كل ما تقاسي من خشونة طبعه وتجبره المقيت عليها وعلى ابنائها، ثم يعود مفسراً سبب ديمومة العلاقة بينهما يعتمد على قدرة والده على مراضاة أمه بتبعات العلاقة الزوجية، فمع كل مشكلة تحصل يتوقع ولادة مولود جديد للأسرة.

يصف شدة الجوع التي كان يقاسي منها وهو في سن السابعة، ويصف أيضاً حال فقراء ريف (إقليم الناظور)، الأمر الذي دفع الكثير من عوائل الريف إلى هجرته في العام 1942م، وتوجهوا إلى مدينة طنجة ــ والتي سيكون لها الدور المهم في سيرة حياته كلها ــ ولم يكن الحال في طنجة على الصورة التي كانوا يحلمون بها، ففي هذه المدينة بدأت حياة التشرد والعوز، وأن لم يكن بحد الموت من الجوع كما حدث لخاله الذي مات من الجوع في الريف، لأنه في هذه المدينة إن لم يجد عملاً فأنه لا يترفع عن أكل كل ما يمكن أن يتحصل عليه من القمامة.

تتطور معه الأمور مع تزايد عدد السنين التي تمر من عمره، ليعمل أجيراً في مقهى شعبي، يأتي والده ليقبض أجرته ويتركه يتدبر أمره بالسرقة، التي أصبحت سلوكاً يألفه، ومن ذلك المقهى دخل إلى عالم التدخين والحشيش، والخمر، فانطبعت سمة سلوكه بالانحراف والتشرد والذي كان يعد وقتها حالة طبيعية لكل من هو في مثل ظروفه الاجتماعية، وتنوعت طبيعة الأعمال التي مارسها لكسب قوت يومه، فعمل بائعاً للسجائر المهربة، وبائعاً للصحف، وعمل بائعاً للنثريات في الميناء، وأجيراً في معمل، فلم يكن يترفع عن أي عمل يمكنه القيام به، ولم يكن مضطراً لتحمل ظروف أي عمل والاستمرار به إن لم يرغب بذلك.

ومع وصوله سن البلوغ كان سلوكه الاجتماعي يدفعه نحو اشباع غريزته الجنسية، وهنا تكون سيرة محمد شكري وصفية حد المشاهدة الحسية، متحدثاً عن تجاربه مع النساء، وبيوت الدعارة، والخمارات، وحياة التشرد والنوم في أي مكان يتسع جسده المنهك، مقبرة كانت، أو مقعد على رصيف، أو جدار مخبز، المكان لا يهم عند المتشرد، المهم عنده ألا تصل إليه يد رجال الشرطة لتعتقله، أو يد لص ينتشل منه ما يكون معه من قطع نقدية، أو حتى بعض ملابسه، أو يتعرض للاغتصاب إن أفلسوا ولم يجدوا معه شيء يستفيدون منه.

في رواية الشطار، واصل محمد شكري سرد أحداث حياته الاجتماعية، مع التركيز على ناحية مهمة أدت إلى ولادة شخصية ثقافية مغربية لها بصمتها في المسيرة الأدبية العربية، فقد أصبح تلميذاً رغم بلوغة العشرين من العمر، وهذا التحول في حياته ساعده في التخلص من بعض السلوكيات التي اعتادها فلم يعد يحتاج للسرقة في تدبر أمور نفقاته، لم يعد يحتاج لاستعراض عضلاته في حل مشاكله اليومية، أصبح منكباً على القراءة وتوسيع مدركاته الثقافية.

في الوقت نفسه لم يرد محمد شكري أن يبعده هذا التغير في حياته الشخصية عن بيوت الدعارة والنساء والسكر، فهذه البيئة المناسبة له حتى يبقى على قيد الحياة. أثمرت تجربته التعليمية حتى أصبح معلماً في إحدى المدارس، وفي سياق سيرته الذاتية روى لنا حزنه على وفاة والدته، ويذكر أنه لم يدر بوفاة والده إلا بعدها باعوام، فلم يكن مهتما بذلك ولم يكن معارفه وأقربائه مهتمون بإبلاغه بالخبر لمعرفتهم بكرهه له، وهنا لابد من الإشارة إلى أن علاقة محمد شكري بوالده علاقة شاذة وغريبة عن الحالة الطبيعية لمجتمعات تولي مسألة بر الوالدين درجة كبيرة من الاهتمام، وقد يكون هذا واحد من الأسباب التي دفعت الكاتب الأمريكي بول باولز لنشر سيرته الذاتية في الصحافة عام 1972م، وفي الوقت نفسه ساهم ذلك في ترجمتها لعدد من اللغات الاجنبية، وترجمة إلى اللغة العربية في العام 1982م، وكان سبباً في رفض المجتمع العربي لسيرة محمد شكري لأنها تتعارض مع قيمه الاخلاقية والاجتماعية.

لا تبحث السيرة الروائية لمحمد شكري في رواياته الثلاث في محاولات إظهار أثر التطور الثقافي للشخص في سلوكياتهأ أو في محاولة التعذر بالجهل واعتباره سبباً للانحراف السلوكي للفرد، لهذا يقول في رواية وجوه: "لا يمكن معرفة كل شيء عما يمكن أن تؤثر به طفولة الكاتب على كتابته، فهو يكتب طفولته من خلال رجولته ونضجه" (ص 152)، بل إن السردية الروائية للسيرة الذاتية كما خطها محمد شكري كانت تتجه لإثارة فضول القارئ لمعرفة تفاصيل حياته، مدركاً أن الحديث عن مثل هذه الموضوعات الإنسانية بهذه السردية الروائية هو عنصر مهم من عناصر نجاح مسيرته الأدبية، وهذا يمكن تصوره من تعمد العودة في كل مرة يكتب فيها عن سيرته لذات المواضيع المثيرة للفضول، فقد كتب رواية "الشطار" بعد سنين من كتابة رواية "الخبز الحافي"، ثم بعد ذلك عاد ليكتب رواية "وجوه" والتي تدور قصص أبطالها في ذات المدار السردي المليئ بالتصوير التمثيلي للجنس، والتي يقول فيها: "اسفاً للذين يكتبون ولا يملكون ذاكرة مبدعة لعينة، إن كل كتابة مغوية تحمل سر الاعجاب بها أو إهمالها" (ص 10).

أدرك محمد شكري أن كتابته لسيرته الذاتية بأسلوب روائي مفرط في البذائة والوصف الماجن، شكل خرقاً في أخلاقيات الكتابة والتأليف، وجعل منه محل احتقار في مجتمعه يقول حيال ذلك في رواية وجوه: "لقد بصق علي بعضهم في الشارع، وفي الحانات، وفي المؤسسات الرسمية وغير الرسمية وفي كل مكان لأني كاتب ملعون" (ص 104)، ويقول أيضاً: "عندما اعترف بصريح ما أعرفه عن الأشخاص وصريحة ما أعرفه عن الاشياء أكون قد خلقت عدواً لا أعرف متى يثار مني ولو في الوهم. الصراحة ليست دائماً أم الحقيقة" (ص 156).

من خلال الاطلاع على السيرة الروائية لمحمد شكري في رواياته الثلاث تجد أن المحاور الموضوعية محصورة في رباعية "التشرد، الجنس، الخمور، الحشيش" وكان سرد محمد شكري تصويري فاضح لسلوكياته الشخصية دون الالتزام بأي قيود أو محددات أخلاقية أو دينية أو اجتماعية في عرض السردية الروائية، وهذا الانفلات لم يضف أي فائدة أدبية للعمل الروائي العربي، لكنه كسر حاجز الخوض الصريح في التجارب الشخصية والكتابة العفوية عن الواقع الاجتماعي بدون اعتبار لأي قيود أو محددات. وخلاصة القول إن روايات محمد شكري الممثلة لسيرته الذاتية ينطبق عليه القول: "لا مدحها يُجدي ولا ذمها".