23‏/02‏/2024

قراءة انطباعية في رواية سعادة الأسرة

     رواية سعادة الأسرة للأديب الروسي ليو تولستوي تحكي قصة تكوين أسرة أبطالها زوجين تجمعهما علاقة صداقة ومعرفة ممتدة من العلاقات الاجتماعية لوالد بطلة الرواية "ماشا" بالشاب الثلاثيني "سيرجي ميخاليس"، في اللقاء الأول بين ماشا وسيرجي ميخاليس بدت مشاعر ماشا ميالة له، ومن خلال تصرفاته وتغير انفعالاته خلال اللقاءات التالية استنتجت ماشا ميوله العاطفية تجاهها مع حرصه الشديد على إخفاء هذه المشاعر.
     تتطور سردية الرواية لتكشف لنا السبب الذي جعل سيرجي ميخاليس يخفي مشاعره وعواطفه تجاه ماشا، ومن هنا بدأ البناء الموضوعي للرواية، فالرواية ناقشت قضية فارق العمر بين الزوجين، وقضية التأقلم مع الظروف الاجتماعية المتغيرة، وأثر التربية والتنشئة في سلوك الفرد، وأهمية قيام كلا الزوجين بتفكيك مشاكلهم وتجاوزها من خلال طرح عقلاني لحل الخلافات، واتخاذ قرار السعادة لديمومة مؤسسة الأسرة.
     قدم الكاتب شخصية سيرجي ميخاليس بعمر السادسة والثلاثين عاماً يعود بعد انقطاع دام ستة أعوام لأسرة ماشا الفتاة البالغة حينها سبعة عشر عاماً وشقيقتها الأصغر سونيا، بصفته الوصي على ممتلكات الأسرة، بعد وفاة والده ماشا وسونيا، سيرجي ميخاليس على معرفة تامة بماشا بحكم التنشئة في بيئة واحدة وعلاقات الصداقة التي جمعت أسرته بأسرتها، ومنذ طفولة ماشا كان سيرجي ميخاليس الفتى المراهق متعلقاً بها، لكن كانت تلازم سيرجي ميخاليس عقدة فارق العمر بينه وبين ماشا التي يكبرها بتسعة عشر عاما، وكان تصوره أن هذا الفارق العمري سيزيد من تعب ماشا لو اقترنت به، لأنه لن يستطيع أن يساير طموحاتها ورغباتها الحياتية وهو في هذا العمر، معتقداً أن تطلعاته وطموحاته لا تشترك مع تطلعاتها وطموحاتها المستقبلية، ثم أن أي تنازل أو تقليل من أهمية هذه المسألة من طرف ماشا هو نتاج قلة خبرتها ومعرفتها في شؤون الحياة، ثم لأنها لم تصادف شخصا قريبا من عمرها وتتعامل معه بحكم شبه انعزاليتهم في الريف، وأن أي فرصة للحياة في المدينة لو قدر لها أن تعيشها ستجعلها تشعر بهذا الفارق، وستكون النتائج مدمرة لهذه العلاقة.
     لم يغفل الكاتب الإشارة للدور التربوي في حياة ماشا فقد قدمها على أنها فتاة نشأت وترعرعت في منطقة ريفية محافظة وأنها كانت تمارس واجباتها الدينية بحب وعقيدة مخلصة وتعي أهمية التعامل الحسن مع كل أفراد المجتمع المحيطين بها وتؤمن بأن النزعة الدينية جزء أساسي في حياة الفرد.
     تخطت سردية الرواية بطريقة عفوية بسيطة عقدة فارق العمر التي كانت تشغل أفكار سيرجي ميخاليس، من خلال خلقها كينونة عاطفية متبادلة بينه وبين ماشا ساعدت في الوصول إلى لحظة إتمامهما مراسم الزواج، وبذلك كونا أسرة صغيرة اندمجت في محيط أسرة سيرجي ميخاليس وتمكنت ماشا من التأقلم مع بروتوكول الحياة في منزل والدة سيرجي ميخاليس التي كانت تعيش حياتها بنظام صارم ينطبق على كل الأفراد العاملين في خدمتها في المنزل "لقد كُنت وإياه نعيش غريبين في هذا البيت الواسع، حيث تتحكم التقاليد، ... وحينما أفكر في ذلك الآن أرى أشياء كثيرة أخص منها بالذكر الضغط، والرجعية التقليدية، وجمهرة الخدم العجيبة كانت تضغط على فؤادي ولا تبعث على ارتياحي، ولكن حبنا في نفس الوقت كان يزداد ويعظم، وما كنت لأغضب من أجل فقدان أي شيء وأحسبه كان كذلك" (ص: 95، 96).
     تأخذنا أحداث الرواية للجانب الأكثر تعقيدا في حياة الأسرة، من خلال خلق ظروف استثنائية تتطلب انتقال الأسرة الصغيرة من الريف إلى مدينة، وهنا تبدأ ماشا بالتعرف على طبقة اجتماعية مختلفة تماما عن تلك التي عايشتها في الريف، استوعبتها هذه الطبقة لجمالها الطبيعي وأناقتها وقدرتها الكبيرة على التأقلم مع متطلبات الحياة الجديدة، هذا التحول الحياتي أثار عقدة فارق العمر التي كانت تقلق سيرجي ميخاليس، فعادت لتطوق أحاسيسه ومشاعره تجاه زوجته الشابة، وأصبح يتردد في الظهور معها أو الوقوف إلى جانبها في المناسبات والحفلات، تاركا لها العنان في قضاء سهراتها مستمتعة رغم ما يعتصره من ألم حيال انجرافها في هذا التيار الذي لا يرتجي من ورائه سلامة علاقتهما الأسرية، فلم يعد يلقى منها الاهتمام والرحابة التي كان يعتادها قبل ذلك، تقول في ذلك: "كنت أشعر بالكبرياء، والخيلاء، حينما كنت أجذب نحوي كل العيون في الحفلات الراقصة، بينما يتركني هو سريعاً ليخفي نفسه في المعاطف السوداء، كما لو كان يخجل أن يعرف الناس عنه أنه زوجي" (ص: 112).
     تتعاظم مشكلة ماشا واندماجها في البيئة الاجتماعية الجديدة التي تداعب فيها روح الشباب، فيقرر الزوج العودة الى الريف وترك حياة المدينة عسى أن تلتئم جروح كرامته من تطور حياة زوجته، والحفاظ على ما تبقى من روابط حميمة تجمع أسرته الصغيرة، لكن في اللحظة الحاسمة لتنفيذ هذا القرار تتلقى ماشا عرضا لحضور حفلة ساهرة يقيمها أحد الأمراء خلال زيارته للمدينة، أبدى رغبته في أن تكون ماشا حاضرة، فتبدأ حالة من التشاور بين الزوجين تنتهي بتلاقى تنازلات الزوج مع تطلعات الزوجة ورغباتها فيقرران تأجيل الرحيل ليومين، وأن تحضر ماشا الحفل رغم ما يعتصره من الألم في اتخاذ هذا القرار، ويلومها بقوله: "يؤلمني أن الأمير قد اعجب بك، وأنك من أجل هذا الإعجاب تسارعين إليه، ناسيةً نفسك وزوجك ومهملةً احترام شخصك، جاهلة أن ذلك يؤلم زوجك" (ص: 119).
     هذا الموقف ترك أثراً كبيراً في نفس الزوج الذي لم تعد علاقته بزوجته بعد تلك الحفلة كما كانت قبلها، وانتهت الأمور بالتخلي عن فكرة عودة الأسرة للريف، فكانت ماشا حريصة على البقاء في المدينة لتحافظ على المكانة الاجتماعية التي وصلت إليها، وتركت زوجها يقضي أيامه بين الريف والمدينة في حالة نفسية بين الكآبة والشرود الذهني، فكان سلوكها اليومي كما وصفته: "إذ كنت قد اشتهرت في الملاهي التي تحتاطني، حتى ملكت الحياة الاجتماعية التقليدية التي عرفتها أخيراً كل عواطفي.... فقد أخذت أنفق يومي من مطلع الشمس إلى آخر الليل في الأندية والمجتمعات... هكذا مرت أعوام ثلاثة، لم تتغير فيها علاقتنا، وبدا لنا أنها أخذت شكلها الثابت" (ص: 127).
     تتعرف ماشا نهاية المطاف على شاب إيطالي من رواد نوادي السهر التي تتواجد بها وكان هذا الشاب يبدي اهتمامه بها ويغازلها ويتابعها أينما تواجدت حتى جاءت لحظة لقاء جمعته بها في وقت كانت تتنزه به بصحبة إحدى صديقاتها ضفر منها خلال ذلك اللقاء بقبلة وهي في حالة نفسية ذاوية منهكة من التردد والحيرة تصارع نفسها في حسم مصير حياتها التي آلت إليها وعلاقتها بأسرتها، هذه القبلة حركت مشاعر الندم على مآل حالها وتردي علاقتها بزوجها وإهمالها لأسرتها التي زاد عدد أفرادها بمولودها الأول، واتخذت قرارها بمغادرة المدينة واللحاق بزوجها في بيتهم الريفي.
     عند عودتها من المدينة واجهت ماشا حالة من الجفاء والتجاهل عاملها بها زوجها، وانتابها شعور عميق بالندم على سلوكها خلال إقامتها في المدينة، ولصعوبة تخطي ذكريات سنوات الجفاء بين الزوجين ادخل الكاتب عنصر مساعد كسر الجمود وخلخل حالة النفور بين الزوجين، وكان هذا العنصر يعتمد على الجذور العميقة في نفس ماشا المكتسب من نشأتها الريفية وعقيدتها الإيمانية، ويذكر على لسانها: "وفي لحظة تأمل لجأت إلى الصلاة قائلة: "أي ربي اعف عني إن كنت أخطأت، وأعد إلي السعادة التي كنت أتمتع بها، وعلمني كيف أصنع وكيف أعيش منذ الآن" (ص: 143). من هذا المدخل الذي أسسه على الشعور بعقدة الذنب قدم الكاتب رؤيته لحل المشاكل الزوجية والتي تعتمد على مبدأ خلق حالة صريحة من الحوار بين الزوجين بادرت بها ماشا، نتج عن هذا الحوار الصريح المحمل بمشاعر الندم والخوف والقلق حالة من التفاهم والتنازل من قبل زوجها وعدم إصراره على حالة الجفاء والمكابرة التي طغت على مشاعره وسلوكه، لتعود حالة من الألفة بينهما، ثم تنتهي الأمور بينهما بطي صفحة الماضي واتخاذ قرار السعادة الذي لم شمل الأسرة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق