23‏/02‏/2024

قراءة انطباعية في رواية سعادة الأسرة

     رواية سعادة الأسرة للأديب الروسي ليو تولستوي تحكي قصة تكوين أسرة أبطالها زوجين تجمعهما علاقة صداقة ومعرفة ممتدة من العلاقات الاجتماعية لوالد بطلة الرواية "ماشا" بالشاب الثلاثيني "سيرجي ميخاليس"، في اللقاء الأول بين ماشا وسيرجي ميخاليس بدت مشاعر ماشا ميالة له، ومن خلال تصرفاته وتغير انفعالاته خلال اللقاءات التالية استنتجت ماشا ميوله العاطفية تجاهها مع حرصه الشديد على إخفاء هذه المشاعر.
     تتطور سردية الرواية لتكشف لنا السبب الذي جعل سيرجي ميخاليس يخفي مشاعره وعواطفه تجاه ماشا، ومن هنا بدأ البناء الموضوعي للرواية، فالرواية ناقشت قضية فارق العمر بين الزوجين، وقضية التأقلم مع الظروف الاجتماعية المتغيرة، وأثر التربية والتنشئة في سلوك الفرد، وأهمية قيام كلا الزوجين بتفكيك مشاكلهم وتجاوزها من خلال طرح عقلاني لحل الخلافات، واتخاذ قرار السعادة لديمومة مؤسسة الأسرة.
     قدم الكاتب شخصية سيرجي ميخاليس بعمر السادسة والثلاثين عاماً يعود بعد انقطاع دام ستة أعوام لأسرة ماشا الفتاة البالغة حينها سبعة عشر عاماً وشقيقتها الأصغر سونيا، بصفته الوصي على ممتلكات الأسرة، بعد وفاة والده ماشا وسونيا، سيرجي ميخاليس على معرفة تامة بماشا بحكم التنشئة في بيئة واحدة وعلاقات الصداقة التي جمعت أسرته بأسرتها، ومنذ طفولة ماشا كان سيرجي ميخاليس الفتى المراهق متعلقاً بها، لكن كانت تلازم سيرجي ميخاليس عقدة فارق العمر بينه وبين ماشا التي يكبرها بتسعة عشر عاما، وكان تصوره أن هذا الفارق العمري سيزيد من تعب ماشا لو اقترنت به، لأنه لن يستطيع أن يساير طموحاتها ورغباتها الحياتية وهو في هذا العمر، معتقداً أن تطلعاته وطموحاته لا تشترك مع تطلعاتها وطموحاتها المستقبلية، ثم أن أي تنازل أو تقليل من أهمية هذه المسألة من طرف ماشا هو نتاج قلة خبرتها ومعرفتها في شؤون الحياة، ثم لأنها لم تصادف شخصا قريبا من عمرها وتتعامل معه بحكم شبه انعزاليتهم في الريف، وأن أي فرصة للحياة في المدينة لو قدر لها أن تعيشها ستجعلها تشعر بهذا الفارق، وستكون النتائج مدمرة لهذه العلاقة.
     لم يغفل الكاتب الإشارة للدور التربوي في حياة ماشا فقد قدمها على أنها فتاة نشأت وترعرعت في منطقة ريفية محافظة وأنها كانت تمارس واجباتها الدينية بحب وعقيدة مخلصة وتعي أهمية التعامل الحسن مع كل أفراد المجتمع المحيطين بها وتؤمن بأن النزعة الدينية جزء أساسي في حياة الفرد.
     تخطت سردية الرواية بطريقة عفوية بسيطة عقدة فارق العمر التي كانت تشغل أفكار سيرجي ميخاليس، من خلال خلقها كينونة عاطفية متبادلة بينه وبين ماشا ساعدت في الوصول إلى لحظة إتمامهما مراسم الزواج، وبذلك كونا أسرة صغيرة اندمجت في محيط أسرة سيرجي ميخاليس وتمكنت ماشا من التأقلم مع بروتوكول الحياة في منزل والدة سيرجي ميخاليس التي كانت تعيش حياتها بنظام صارم ينطبق على كل الأفراد العاملين في خدمتها في المنزل "لقد كُنت وإياه نعيش غريبين في هذا البيت الواسع، حيث تتحكم التقاليد، ... وحينما أفكر في ذلك الآن أرى أشياء كثيرة أخص منها بالذكر الضغط، والرجعية التقليدية، وجمهرة الخدم العجيبة كانت تضغط على فؤادي ولا تبعث على ارتياحي، ولكن حبنا في نفس الوقت كان يزداد ويعظم، وما كنت لأغضب من أجل فقدان أي شيء وأحسبه كان كذلك" (ص: 95، 96).
     تأخذنا أحداث الرواية للجانب الأكثر تعقيدا في حياة الأسرة، من خلال خلق ظروف استثنائية تتطلب انتقال الأسرة الصغيرة من الريف إلى مدينة، وهنا تبدأ ماشا بالتعرف على طبقة اجتماعية مختلفة تماما عن تلك التي عايشتها في الريف، استوعبتها هذه الطبقة لجمالها الطبيعي وأناقتها وقدرتها الكبيرة على التأقلم مع متطلبات الحياة الجديدة، هذا التحول الحياتي أثار عقدة فارق العمر التي كانت تقلق سيرجي ميخاليس، فعادت لتطوق أحاسيسه ومشاعره تجاه زوجته الشابة، وأصبح يتردد في الظهور معها أو الوقوف إلى جانبها في المناسبات والحفلات، تاركا لها العنان في قضاء سهراتها مستمتعة رغم ما يعتصره من ألم حيال انجرافها في هذا التيار الذي لا يرتجي من ورائه سلامة علاقتهما الأسرية، فلم يعد يلقى منها الاهتمام والرحابة التي كان يعتادها قبل ذلك، تقول في ذلك: "كنت أشعر بالكبرياء، والخيلاء، حينما كنت أجذب نحوي كل العيون في الحفلات الراقصة، بينما يتركني هو سريعاً ليخفي نفسه في المعاطف السوداء، كما لو كان يخجل أن يعرف الناس عنه أنه زوجي" (ص: 112).
     تتعاظم مشكلة ماشا واندماجها في البيئة الاجتماعية الجديدة التي تداعب فيها روح الشباب، فيقرر الزوج العودة الى الريف وترك حياة المدينة عسى أن تلتئم جروح كرامته من تطور حياة زوجته، والحفاظ على ما تبقى من روابط حميمة تجمع أسرته الصغيرة، لكن في اللحظة الحاسمة لتنفيذ هذا القرار تتلقى ماشا عرضا لحضور حفلة ساهرة يقيمها أحد الأمراء خلال زيارته للمدينة، أبدى رغبته في أن تكون ماشا حاضرة، فتبدأ حالة من التشاور بين الزوجين تنتهي بتلاقى تنازلات الزوج مع تطلعات الزوجة ورغباتها فيقرران تأجيل الرحيل ليومين، وأن تحضر ماشا الحفل رغم ما يعتصره من الألم في اتخاذ هذا القرار، ويلومها بقوله: "يؤلمني أن الأمير قد اعجب بك، وأنك من أجل هذا الإعجاب تسارعين إليه، ناسيةً نفسك وزوجك ومهملةً احترام شخصك، جاهلة أن ذلك يؤلم زوجك" (ص: 119).
     هذا الموقف ترك أثراً كبيراً في نفس الزوج الذي لم تعد علاقته بزوجته بعد تلك الحفلة كما كانت قبلها، وانتهت الأمور بالتخلي عن فكرة عودة الأسرة للريف، فكانت ماشا حريصة على البقاء في المدينة لتحافظ على المكانة الاجتماعية التي وصلت إليها، وتركت زوجها يقضي أيامه بين الريف والمدينة في حالة نفسية بين الكآبة والشرود الذهني، فكان سلوكها اليومي كما وصفته: "إذ كنت قد اشتهرت في الملاهي التي تحتاطني، حتى ملكت الحياة الاجتماعية التقليدية التي عرفتها أخيراً كل عواطفي.... فقد أخذت أنفق يومي من مطلع الشمس إلى آخر الليل في الأندية والمجتمعات... هكذا مرت أعوام ثلاثة، لم تتغير فيها علاقتنا، وبدا لنا أنها أخذت شكلها الثابت" (ص: 127).
     تتعرف ماشا نهاية المطاف على شاب إيطالي من رواد نوادي السهر التي تتواجد بها وكان هذا الشاب يبدي اهتمامه بها ويغازلها ويتابعها أينما تواجدت حتى جاءت لحظة لقاء جمعته بها في وقت كانت تتنزه به بصحبة إحدى صديقاتها ضفر منها خلال ذلك اللقاء بقبلة وهي في حالة نفسية ذاوية منهكة من التردد والحيرة تصارع نفسها في حسم مصير حياتها التي آلت إليها وعلاقتها بأسرتها، هذه القبلة حركت مشاعر الندم على مآل حالها وتردي علاقتها بزوجها وإهمالها لأسرتها التي زاد عدد أفرادها بمولودها الأول، واتخذت قرارها بمغادرة المدينة واللحاق بزوجها في بيتهم الريفي.
     عند عودتها من المدينة واجهت ماشا حالة من الجفاء والتجاهل عاملها بها زوجها، وانتابها شعور عميق بالندم على سلوكها خلال إقامتها في المدينة، ولصعوبة تخطي ذكريات سنوات الجفاء بين الزوجين ادخل الكاتب عنصر مساعد كسر الجمود وخلخل حالة النفور بين الزوجين، وكان هذا العنصر يعتمد على الجذور العميقة في نفس ماشا المكتسب من نشأتها الريفية وعقيدتها الإيمانية، ويذكر على لسانها: "وفي لحظة تأمل لجأت إلى الصلاة قائلة: "أي ربي اعف عني إن كنت أخطأت، وأعد إلي السعادة التي كنت أتمتع بها، وعلمني كيف أصنع وكيف أعيش منذ الآن" (ص: 143). من هذا المدخل الذي أسسه على الشعور بعقدة الذنب قدم الكاتب رؤيته لحل المشاكل الزوجية والتي تعتمد على مبدأ خلق حالة صريحة من الحوار بين الزوجين بادرت بها ماشا، نتج عن هذا الحوار الصريح المحمل بمشاعر الندم والخوف والقلق حالة من التفاهم والتنازل من قبل زوجها وعدم إصراره على حالة الجفاء والمكابرة التي طغت على مشاعره وسلوكه، لتعود حالة من الألفة بينهما، ثم تنتهي الأمور بينهما بطي صفحة الماضي واتخاذ قرار السعادة الذي لم شمل الأسرة.

قراءة انطباعية في رواية نبت غريب

 

 رواية نبت غريب للمؤلف والمنتج الأردني ياسر قبيلات صدرت عن الآن ناشرون وموزعون عام 2020، جاءت الرواية في 532 صفحة من القطع المتوسط، قسم الكاتب المحاور الموضوعية للرواية إلى ثلاثة مضامين هي: مواسم الحيرة، السوالف القديمة، تذاكر الأيام الأخيرة.
    الرواية في سرديتها خيالية تذهب بعيدا في الرمزية تحكي قصة زعيم قبلي "كبير القوم" ورث حكم القبيلة بعد وفاة والده وشقيقه الأكبر وخلال ممارسة دوره القيادي جنح للسلم مع أكثر القبائل عداءً لقبيلته وبقي كل حياته يتخوف من مهاجمتهم لقبيلته رغم ما بينهم من صلح، تسببت ميوله السلمية في ضعف قوة قبيلته، التي باتت تعتمد خلال حكمه لها على وساطات أصدقائه في تقريب وجهات النظر بينه وبين خصومة من جهة واعتماده في سياسة شؤون القبيلة على نصائح وتكهنات الختيارة وهي الشخصية الرئيسية الثانية في الرواية، والختيارة ليست من نسب أبناء القبيلة فهي دخيلة من أصول أفريقية عثر عليها أثناء غزوة من غزوات القبيلة، ولشدة فتنتها وجمالها في صباها وامتناعها عن الزواج كانت صاحبة حضوه عند وجهاء القبيلة ورجالاتها، وفي كبرها أصبحت تعتمد في تعزيز مكانتها ودورها الفاعل والمؤثر في القبيلة بقدراتها الخارقة على التكهن بالغيبيات وأنها قادرة على التأثير في مستقبل القبيلة، وأنها محل ثقة كبير القوم "كانت قدرتها على إثارة القلق في النفوس نقطة قوتها، وما زالت!" (ص: 51).
    أبعدت السياسة التي انتهجها كبير القوم أكثر رجال القبيلة حكمة وشجاعة عن مجلسه حتى وصلت الأمور في نهايتها أن كبير القوم لا يجد عند أفراد القبيلة الحظوة والاهتمام الذي يجب أن يكون لمنصب زعامة القبيلة، وخلال سرد الراوي لسيرة كبير القوم تحدث عن ظهور نبت غريب بدأ ينمو في كل مكان من أراضي القبيلة، وهذا النبت يؤثر على ماشية القبيلة فعندما تأكل منه تموت، الأمر الذي تطلب من كبير القوم مواجهة هذه الظاهرة الغريبة، فلجأ لمشورة الختيارة التي لم يكن لديها تفسير لهذه الظاهرة، الأمر الذي جعل كبير القوم في مواجهة مباشرة مع أفراد القبيلة ليتشاوروا في الأمر المصيري الذي داهمهم، ليكشف لنا الكاتب عن حالة التردد والضعف الكبيرة التي يعيشها كبير القوم، انتهت بقرار الرحيل من مضارب القبيلة إلى مساكنهم القروية وتجنيب ماشيتهم تناول النبت الغريب والاعتماد في تغذيتها على ما كان متوفرا لديهم من مخزون.
    لتتجدد الأحداث في القرية من جديد بظهور جماعات غريبة من البشر يدخلون القرية دون استئذان ويمارسون نشاطهم التجاري في كل حرية، ورغم اتفاق كبير القوم مع أفراد قبيلته بعدم الاختلاط بهؤلاء الغرباء إلا أن الأمور لم تأخذ هذا الاتجاه بل إن ابن عمة "معتوق" الذي يعد من وجهاء القبيلة خالطهم وتزوج من إحدى فتياتهم، وأصبح أفراد القبيلة يتاجرون مع الغرباء ويجنون ما يستطيعون من النبت الغريب ويبيعونه للغرباء الذين يشترونه للأكل وهذا النبت الغريب نافع لهم ويزيد من قوتهم ومكانتهم في القرية التي أصبحت تتسع بسرعة حتى تكونت منها مدينة كبيرة، في حين أن من يأكله من أفراد القبيلة يجعله في ضعف ويؤثر عليهم ويقلل من تناسلهم حتى أصبحوا أقلية في هذه المدينة.
    لم تقف الأمور عند هذه الحدود حتى صار الغرباء يطالبون بحكم ادعائهم صلة القرابة والنسب بكبير القوم بحصتهم في مجلس كبير القوم بعد وفاته، ولم يجدوا من يواجههم من أفراد القبيلة إلا الطفل الأبيض وهو ابن كبير القوم ووالدته الختيارة، الذي ولد بعد وفاة والده كبير القوم ونشأ في رعاية والدته وتكفل "معتوق" ابن عم والده في تنشئته تنشئة الفرسان والزعماء ليحافظ على إرث أبيه وقبيلته في مواجهة الغرباء، لكن هذا لم يمنع ابن عمهم "فهيد" الذي سبق أن ترك القبيلة والتحق بالجندية من التواطؤ وقتل معتوق خدمة للغرباء، وأخذاً للثأر قتل الطفل الأبيض فهيد في نفس الليلة وفر هاربا من الجنود، وبهذه التصفية لزعامات القبيلة لم يبق من يدبر أمورها.
    تضمنت الرواية إلى جانب هذه السردية الخيالية موضوعا رديفاً ينقل فيه الكاتب إضاءة على سيرة طفل يولد ثم في عمر الخامسة يغفو من شدة التعب الذي لاقاه من اللعب ليجد نفسه في سن الشيخوخة، مارا بفترة طويلة من السجن الذي دخله لمواقفه السياسية، وتوصيفه لبيت أحلامه الذي صممه في مخيلته ليجد بعد ذلك أن هذا البيت مشيد على الأرض التي حلم أن يشيد بيته فيها، ولكن المفاجأة أن سجانه هو من يخدم صاحب هذا البيت، لا يمكن تصور الاطارها العام لهذه الرواية الخيالية دون الالتفات إلى إهداء الكاتب في أول صفحات الرواية، قال: "إلى ذكرى أبو موسى الأستاذ ضافي الجمعاني، وإلى رفاقه من أبناء جيله، تحية وتقديراً واحتراما" (ص: 5)، ومعرفة سيرة حياة الأستاذ ضافي الجمعاني ورفاقه تفكك رمزيات هذه الرواية.
    الرواية في المجمل جاءت على لسان راوِ واحد هو الطفل الذي نشأ في كنف كبير القوم، لكن هذا لم يمنع من وجود شخصيات متحدثه في سردية الرواية كان صوتها بارز والحوار مسترسل وفاعل، تضمن مواضيع متعددة سواء عن سير شخصيات الرواية أو أدوارهم الفاعلة في عرض المواضيع التي طرحت في سردية الرواية، تعبر الرواية عن حجم الكارثة التي يمكن أن تلحق بالقبيلة بصورتها المعبرة عن الوطن إذا تولى شؤونها زعيمًا ضعيفًا مسالمًا لا يُقدّر حاجته للقوة وقت السلم، ويعتمد في إدارة شؤون قبيلته على غير ذوي الرأي وأهل الحكمة.
    رمزية النبت الغريب رغم إمكانية انفتاح تفسيره على أكثر من شأن من شؤون الحياة إلا أن قراءتي للرواية تجعلني أوافق الصورة الخيالية للكاتب وأوجهها تجاه التأثير الثقافي الأجنبي في المجتمع الذي يتلقى ويقلد دون أن ينتقي ويختار الملائم لطبيعته وتكوينه وموروثه الثقافي، في حين أجد أن رمزية الأجانب في القرية وانتشارهم وتكاثرهم السريع يرمز للنظم والقوانين الغربية التي سادت على النظم الأصيلة، وتستشف هذه المقاربة من كون اعتماد جماعة كبير القوم في معيشتهم على الرعي والتكافل الاجتماعي الذي يمثل في رمزيته مبادئ الاشتراكية، في حين أن ظهور الغرباء في القرية وتأثيرهم في سوقها التجاري وتحفيز أبناء القبيلة على المساهمة في النشاط التجاري والاقتصادي الفردي دون اعتبار للبنية الاجتماعية الجمعية إشارة لنظم الاقتصاد الرأسمالي، في هذا التفكيك الرمزي نعود لصراع النظم السياسية الرأسمالية والاشتراكية ونعود من جديد لاستحضار الصراع بين المعسكر الشرقي والغربي، وانحياز كثير من الدول القطرية الحديثة لأحد المعسكرين، وبالطبع فإن بعض الأفراد والأحزاب في هذه الدول سيكون منهم من يؤيد معسكرًا ضد الآخر، وبذلك سيكون الفرد أو الحزب في مواجهة السلطة النظامية في القطر الذي يعيش فيه إن كان يتبنى في عقيدته السياسية نظم وسياسة المعسكر الآخر.

01‏/02‏/2024

قراءة انطباعية في رواية فاطمة: حكاية البارود والسنابل


  صدرت رواية فاطمة حكاية البارود والسنابل للدكتور محمد عبدالكريم الزيود عن دار الآن ناشرون وموزعون في العام 2021، جاءت الرواية في 221 صفحة من القطع المتوسط. أشكر الدكتور يوسف الشمري مدير مديرية ثقافة محافظة معان الذي مكنني من الحصول على نسخة منها ضمن جملة من الكتب التي أهدتها دار "الآن" للمجتمع المحلي.

بدأت سردية الرواية بعنوان فرعي "من شرفة الغويرية" يصف فيه الكاتب على لسان بطلة الرواية "فاطمة" البيئة الاجتماعية التي اكتسبت منها الرزانة والجلد على استرجاع ذكرياتها منذ ولادتها حتى لحظة إتمام الرواية. كانت العاطفة الإنسانية بكل تقلباتها حاضرة في كل صورة ومشهد تذكره بطلة الرواية، التي ولدت تصرخ ناعية وفاة والدتها التي ماتت بحمى النفاس. وما إن بصرت فاطمة نور الحياة وغدت قادرة على إدراك ما يدور حولها حتى فجعت بوفاة والدها، فعاشت مع شقيقها "حمدان" الذي عاجله الموت ليلة زفافه. فانتقلت للعيش في بيت خالها "حسين" زوج عمتها صبحا، إلى أن تزوجت من "صالح" الذي يكبرها بعشرين عاماً، فعاشت في كنفه بقية عمرها تقاسي مشاعر الحرمان من عاطفة الأمومة.
ارتكز جوهر البناء الموضوعي في سردية رواية "فاطمة" على التأريخ الواقعي للحياة الاجتماعية التي كانت سائدة خلال النطاق الزمني الذي حدده الكاتب في ديباجة الرواية بقوله: "جرت أحداث هذه الرواية خلال الفترة الزمنية الممتدة بين منتصف الأربعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي". اعتمدت الرواية على السردية الاسترجاعية بأسلوب رواية المذكرات، لتخدم الهدف الأساسي للراوي الذي يحاول أن يصور حالة التطور في المجتمعات البدوية التي واكبت التطور الحضري الذي شهدته الدولة الأردنية خلال الإطار الزمني لأحداث الرواية، من خلال توصيف لحظة فارقة في حياة أبناء المجتمع من حياة الترحال والبداوة إلى حياة التوطين والاستقرار وما صاحب هذه النقلة النوعية من اختلاف في طرق الكسب واختلاف في التوازن والوعي الثقافي واختلاف في طبيعة وشكل المسكن. ومن هنا يتولد لدي الاعتقاد في سبب وجود جملة "حكاية البارود والسنابل" في عنوان الرواية.
كان واضحًا استخدام أسلوب الرواية الشفهية وعنصر التوثيق الجمعي في البناء الموضوعي لسردية الرواية، إلى جانب القدرة على خلق صورة متخيلة موازية للحدث تساعد في الانتقال بين المواضيع المتتالية في سردية الرواية. وقد اندرج تحت عناوين "من شرفة الغويرية"، "بيت من بخور"، "بابور وراديو"، "العبدلي" مثال حي لهذا الأسلوب.
اعتمدت سردية الرواية على المعرفة الشخصية عند الحديث عن الجغرافيا التي تدور بها أحداث الرواية، فقد بدا هذا واضحًا من دقة الوصف المكاني واستخدام الأسماء الحقيقية للمناطق السكنية التي تعتبر موطن فروع عشيرة بني حسن. وقد نقلت لنا الراوية تحت العنوان الفرعي "دروب الطيب" أسماء المناطق والطرق الواصلة بينها بشيء من التفصيل.
كشفت سردية الرواية عن الخلفية الثقافية والوظيفية والمعرفة التاريخية للكاتب الذي تخفى بشخصية فاطمة في تصوير مشاهد تعايش شخصيات الرواية مع بعض الأحداث مثل قضايا التجنيد أو الحديث عن بعض التفاصيل التي تتحدث عن معارك الجيش العربي في القدس ووصف حالة التوطين التي مثلت الانتقال من حياة البداوة والترحال إلى حالة الاستقرار والعيش في تجمعات قروية. وقد بدا واضحًا تأثره بالأسلوب القصصي في تحديد المواضيع الفرعية التي كونت بنية السردية الروائية التي قسمها إلى ثلاثة وأربعين عنوانًا فرعيًا، مثل كل منها قصة بحد ذاتها، وتقديمه إضافات معرفية في الهامش لتوضيح أسماء بعض الأماكن والشخصيات والأحداث التي جاء ذكرها في سردية الرواية.
قدمت الرواية بأسلوبها السردي عددًا من العناصر التي كانت برأي الكاتب من أسباب النقلة النوعية في أسلوب معيشة مجتمع الرواية ــ إن صح التعبير ــ فالعنصر الأول هو تخلي أبناء المجتمع من فئة الشباب عن العمل في القطاع الزراعي والانخراط بالخدمة العسكرية، الأمر الذي وفر مصدر دخل ثابت للفرد. والعنصر الثاني هو ظهور مشاريع اقتصادية تتطلب أيد عاملة مستقرة، مثل بناء شركة مصفاة البترول. والعنصر الثالث هو تشكل التجمعات السكانية بالقرب من الوحدات العسكرية واستقرار أسر العسكريين فيها، الأمر الذي تطلب توفير بعض الخدمات، وكانت سببًا في خلق فرص عمل جديدة لأبنائها. ومن الأسباب الرديفة أيضًا استقرار النازحين من الضفة الغربية في هذه المناطق السكنية الناشئة، وما يتبع من حاجات أساسية كان لا بد من توفرها، والتي أسهمت في التطور المعيشي للسكان بعيدًا عن حياة البداوة والترحال.
الرواية بالمجمل قدمت بلغة سهلة واسترسال مترابط، أعطت تصورًا واضحًا للفكرة الجوهرية التي تحاكيها من الواقع الاجتماعي.