رواية سفينة إسماعيل للكاتب العراقي علي لفته سعيد، سردية روائية محملة بالمشاعر والأحلام والطموح، جعلت من استرجاع الذكريات مدخلاً لإلقاء الضوء على واقع اجتماعي مأزوم ساهمت الأُسرة والبيئة الاجتماعية والتركيبة السياسية والعقيدة الدينية في تكوينه، وتنشئة جيل كامل على التعايش مع هذا الواقع المرير.
جاءت تسمية الرواية "سفينة إسماعيل" من الشكل النهائي الذي صارت إليه مكتبة بطل الرواية المتواضعة التي صنع رفوفها من سعف النخيل وبقايا خشب صناديق الفواكه التي وقعت تحت يده، فلما تثاقلت رفوفها بوزن ما وضع عليها من كتب تقعرت فكانت تبدو في هيئتها على شكل سفينة (ص: 101)، في إشارة تحمل دلالة واضحة على كثرة ما عليها من كتب تمكن بطل الرواية من قراءتها، كانت هذه القراءة بالنسبة له وليدة دوافع ومؤثرات نفسية كبيرة، فقد كانت متنفساً للتخلص من عقدة عدم إكمال تحصيله العلمي لأسباب ارتبطت بثقافة ووعي والده الذي كان يخشى على ابنه من مصير كمصير أشقائه الذين تفرقوا نتيجة انتماءاتهم الحزبية وتخليهم عنه وتركه وحيدا للعناية بأرضهم الزراعية (ص: 32). والسبب الآخر ارتبط بمشاعر تحقيق الذات للظهور بمظهر الفتى المثقف لينال إعجاب معلمة من أهل المدينة جاء تعيينها في بلدته اسمها "زمن" فأخذ يقرأ الكتاب ويعيره لها لتقرأه، وإذا سنحت الفرصة ليحاورها في موضوعاته كان يبهرها بقدراته على فهم مضمونه وأهدافه، قال: "صرت ملتهماً للكتب كأن بركاناً من الجوى انفجر داخلي.... وقد عبرت لي عن قدرتي على التعبير والجاذبية التي لا أصدق أني أمتلكها" (ص: 33، 34).
الحب عاطفة إنسانية جبلت عليها النفس، فحب إسماعيل بطل الرواية لزمن أثر في سلوكه ورؤيته للحياة، فبدأت قصة حبه لها طيفاً يتخيله لمحبوبته، ثم استعان بابنة عمه "زهرة" وعدها سفيرة الحب بينه وبين زمن بحكم صداقتها وزمالتها لها في مهنة التعليم وفي نفس المدرسة.
توظيف شخصية زهرة في الرواية من جانب الكاتب كان مدخلاً للإشارة إلى واقع حال الأُسر العراقية الريفية في ذلك الزمن، الذي كان يحافظ على جانب العلاقات الاجتماعية لأفراد الأُسرة بفروعها وأصولها رغم وجود مشاحنات بين بعض أفرادها مع باقي أطراف العائلة، فزهرة وأمها على علاقة طيبة مع عائلة والد إسماعيل رغم الجفاء والخصومة بين الأشقاء (والد إسماعيل ووالد زهرة)، أيضا أدت شخصية زهرة دور مهم في سردية الرواية لكشف جانب اجتماعي آخر يتعلق بزواج الأقارب وأن مصير الفتاة يرتبط بمصير ابن عمها إن كان العمر مناسبا، وهذا ما انتهى إليه حال بطل الرواية بزواجه من إحدى بنات عمه، في حين بقي مصير زهرة معلقاً لأنها أكبر بني عمومتها عمراً.
تترك الرواية الحديث عن حب إسماعيل لزمن فترة طويلة من الزمن امتدت إلى أربعين سنة، عاش خلالها إسماعيل في حنين وشوق، وهذه السنين الطويلة من الفراق كانت بسبب استحالة زواجهما بسبب الفوارق الاجتماعية ومعارضة والد إسماعيل لفكرة الزواج من زمن، وإصراره على تزويجه ابنة عمه، وجعل ذلك شرطاً لوساطته عند عمه المنتمي لحزب سياسي مؤثر في البلاد، كي يلتحق بقوات الشرطة قسم حراسة الآثار والتخلص من إجبارية الالتحاق بالجيش الذي سيدخل حرباً لا تأتي على العراق بالعسل ولا اللبن، فخضع لهذا الشرط ليدخل في محور موضوعي جديد تحمله البنية الموضوعية للرواية، تعلق بمشاهدات بطل الرواية لحالات سرقة الآثار العراقية، وتهريبها تحت عين حراسها وحمايتهم، وهي إشارة لحالات الفساد المنظم الذي اقترفته شخصيات مؤثرة وصاحبة قرار في السلطة الرسمية للدولة.
لم يكن الكاتب متشائماً رغم تغيرات الأحوال السياسية والاقتصادية التي عصفت بالعراق، ولا نادما أو متأسفا على خلعه لبذلته العسكرية، وتصنيفه في صنف المتقاعدين، بل إنه دخل الحياة من الباب الذي خرج منه فعاد لسفينته (مكتبته) وسابقت نظراته يديه لتناول ذلك الكتاب الذي طوى صفحاته قبل أربعين سنة، ليفتحه ويخرج من بين أوراقه ورقة مطوية أرسلتها له زمن من ذلك الزمن، يقرؤها اليوم نادماً أنه لم يقرأها من قبل، كتبت في سطرها الأخير: "لن تنساك أبداً. أعلم أننا سنلتقي ولو بعد حين أحفظ هذا في قلبك كما أحفظه. أحتفظ بالحب ريثما نستعيد قوانا وإن خارت لأسباب تعرفها، والتي لا تنساك أبدا ً(زمن)" (ص: 170).
وفي مكاتب خدمة المتقاعدين كانت بداية استرجاع الذكريات، ليتصادف إسماعيل مع زمن، أول ما لفت انتباهه رائحة عطرها المميزة، التي عرفها بها قبل أربعين سنة، ثم يُتلى اسمه واسمها على التوالي من نافذة الخدمات، لحظتها خارت قوى الأجساد أمام قوى الحب وعظيم الشوق والحنين، الحياة تستحق ما نعيش لأجله.