04‏/02‏/2023

الانتحار السياسي

 تعد ممارسة النشاط السياسي من الحاجات الأساسية في تكوين شخصية الفرد، وكلما كان الفرد متحرراً من القيود القانونية والأخلاقية وضوابط العادات والتقاليد كانت جرأته السياسية أكبر، وهذه الجرأة السياسية يمكن أن تتعزز لدى الفرد بفعل وقوعه تحت تأثير احد عاملين: العامل الأول، أن تكون منطلقة من عقيدة سياسية راسخة، وهنا يحاول الفرد جاهداً من خلال نشاطه السياسي إلى كسب التأييد السياسي لصالحه في تبني قضيته التي يرى أنها تعود بالنفع العام على المجتمع، وغالباً ما يتبنى القضايا من هذا النوع الشريحة المجتمعية المثقفة وبدرجات متفاوتة حسب تقدير الأهمية ودرجة النفعية المترتبة عليها.


أما العامل الثاني المؤثر في درجة الجرأة السياسية فهو الاندفاع العاطفي الشخصي، والاندفاع العاطفي للفرد يمكن أن يكون أيضاً أداه من أدوات التأثير السياسي على أفراد المجتمع، حيث يمكنه من خلال التأثير العاطفي كسب مؤيدين لقضيته أو توجهاته السياسية، وغالباً ما ينجرف وراء هذا المؤثر السياسي الفئات المهمشة في المجتمع.

ولما كانت التطلعات السياسية للفئات المهمشة في المجتمع مختلفة ومتباينة، وكل منها تعد قضية بحد ذاتها، وتتطلب عمليات الخوض فيها سقوفاً أكبر من الحرية، فإن الفرد الذي يتخذ من هذه الفئات الشعبية قاعدة سياسية داعمة له، سيجد نفسه مضطراً إلى الانجراف وراء المؤثرات العاطفية، والتحرر أكثر فأكثر من الضوابط القانونية التي تحكم نشاطه السياسي، فتظهر تصريحاته وخطاباته السياسية الموجهة إلى جمهوره السياسي خارجة عن حدود المسؤولية القانونية، الأمر الذي سيتسبب في وقوعه في المصيدة القانونية.

لهذا يمكن اعتبار أن الجرأة السياسية في حالة الاندفاع العاطفي الشخصي اخطر أنواع النشاط السياسي، وأن مآلها إلى الحكم على نفسه بالانتحار السياسي، ليس لأن المنطلق الأساسي لها يكون مرتكزاً على تحقيق مصالح شخصية بحته، ستظهر للعيان مهما استطاع التعمية عليها، ولا لأن الفئات السياسية المؤيدة له ستتخلى عنه وسترفض تأييده في مساعيه لتحقيقها لأنها تتعارض مع ميولهم السياسية وثوابتهم الوطنية فحسب، بل لأنه ستتعاظم لديه عوامل الاندفاع العاطفي الشخصي بشكل اكبر، وسيضطر إلى الإفصاح العلني عن قضيته الشخصية الأساسية، وكلما كان جريئاً في الإفصاح كلما تقلص عدد مؤيديه لأنه يقترب من خصوصية قضيته الشخصية، ويبتعد عن عموم قضايا القاعدة الشعبية المحيطة به، والتي سرعان ما ستتلاشى روابطها السياسية به، ومن ثم سيجد نفسه وحيداً في مواجهة الادعاء العام بقضايا جنائية، وجرائم مكتملة الأركان، تورط فيها وهو في نشوة الاندفاع السياسي العاطفي، ولن يجد حوله إلا المعزين من الفئة القليلة التي لديها شكوك بأن هذا الفرد وقع ضحية مؤامرة، وهذه الفئة أيضاً لن يطول أمد بقائها حوله، فسرعان ما تنتهي مراسم العزاء وتتلاشى، بعد أن تكتشف أن هذا الفرد فاقد للأهلية السياسية.

حق التعبير عن الرأي

 من ابسط الحقوق التي يجب أن تُحفظ للفرد في مجتمعه الذي يعيش فيه، حق التعبير عن الرأي، وحق تبني ما يراه متوافقاً مع مصالحه من مواقف، وهنا نقول حق لا نقول حرية، لأن الحرية في التعبير عن الرأي أو تبني ما يشاء من مواقف، تتأثر بقدرة الشخص على تجاوز القيود المفروضة عليه، أو المحيطة به، سواء كانت قيود قانونية، أو عادات وتقاليد اجتماعية، أو ضوابط دينية، والضابط الوحيد المقبول للحد منها يتمثل في عدم المساس أو التجاوز على حريات الآخرين، في حين أن الحق يُعتبر مصدر أساسي يكفله القانون، وتكفله الذهنية الاجتماعية الواعية المتفهمة، ويمثل عنصر مهم من عناصر التحضر والمدنية والرقي الاجتماعي، وتعتبر السلطة السياسية في أي دولة، هي العنصر الفاعل والمؤثر الأساسي في تعزيز هذا الحق، وإتاحته لأفراد مجتمعها، وهي الوحيدة القادرة على الانتقاص منه، أو توجيهه وفق مصالحها ورؤيتها السياسية.

ولو أردنا إسقاط هذا التصور على الحالة الأردنية، لوجدنا أن العناصر السياسية الفاعلة في المجتمع الأردني، ممثلة بالحراكيين، والمدونين، ومستخدمي تقنيات السوشل ميديا، من أصحاب الآراء والتوجهات المتعارضة مع السياسة العامة للسلطة الرسمية في الدولة الأردنية، يمتلكون الكثير من الحرية، وهنا نؤكد على أنهم يمتلكون الكثير من الحرية، ولكن ليس كل الحرية، إلا أنهم غالباً لا يمتلكون الحق في التعبير عن آراءهم بشكل مطلق، أو يمتلكون الحق في تبني المواقف التي يشاءون تبنيها، نتيجة الحد من هذه الحريات بموجب القوانين المختلفة التي تعرضهم للمسائلة والملاحقة القانونية، وبذرائع وحجج مختلفة، تصر السلطة الرسمية على التمسك بها للحفاظ على نهج الإدارة والسلوك السياسي الذي تتبعه، والذي يكون بدوره واقع تحت مؤثرات واعتبارات متعددة تفرض نفسها على السلطة قبل الفرد.
من هنا يمكن أن نقول بأن كل الأطراف الأردنية التي تعبر عن آراءها أو تتبنى مواقف معينة، سواء كانت متوافقة مع سياسات السلطة الرسمية، أو متعارضة معها، فأنها تصب في اتجاه واحد هو محاولة الرقي في الدولة الأردنية، وعلينا أن نُقر بأن الكل يعمل تحت مظلة الوطنية الأردنية، وأن أي تهجم على طرف من الأطراف ونعته بالصفات السلبية، هو نوع من أنواع التعدي على الحرية، فالوطني الذي يتبنى رؤية السلطة الرسمية هو وطني يمارس حريته في التعبير عن رأيه، ومن العدالة أن تتاح له الفرصة الكافية لذلك، والوطني الذي يقف على خلاف مع أي موقف من مواقف السلطة الرسمية، هو أيضاً وطني، ولا يجوز أن يمنح أي طرف لنفسه الحق بالطعن في وطنيته، أو التشكيك في نواياه، أو تخوينه، أو ممارسة أي نوع من أنواع القهر القانوني بحقه، حتى إن كان أسلوب معالجته للقضايا أو بحثها يتم بأسلوب انفعالي أو تحريضي، يمكن أن يفهم منه المناكفة والتحدي للسلطة الرسمية، نتيجة الكثير من الحرية المتاحة له.