28‏/03‏/2018

في ذكرى معركة الكرامة


     على الرغم من أهمية معركة الكرامة في تاريخ المملكة الأردنية الهاشمية بشكل عام، والتاريخ العسكري للقوات المسلحة الأردنية بشكل خاص، وما حققته هذه المعركة من استعادة الثقة في النفس للمواطن العربي، الذي أغرقته خيبة الأمل من هزيمة القوات المسلحة العربية أمام إسرائيل في حرب حزيران 1967، إلا أن هذه المعركة لم تحفل بالأهمية التي تستحقها في الإنتاج الفكري للمؤرخين، والمعنيين في الكتابة التاريخية من الأكاديميين في الأردن، أو الوطن العربي، وغالباً ما يتم التطرق لهذه المعركة في سياق التاريخ الأردني بشكل عرضي وهامشي. هذا إذا ما استثنينا المنشورات والكتب الصادرة عن مديرية التوجيه المعنوي في القوات المسلحة الأردنية، والتي استطاعت أن تسد جزء من هذا النقص في المكتبة العربية، عن هذه المعركة المصيرية، التي حسمت التطلعات الصهيونية نحو شرق الأردن، وحطمت هذه المعركة الأسطورة التاريخية، التي طالما أثرت على معنويات الجنود العرب، وتفاخر بها الإسرائيليون بأن جيشهم لا يقهر.
     واليوم ونحن نعايش الذكرى الخمسين لهذه المعركة الخالدة، نستلهم من الإرادة القوية للجندي الأردني في مختلف رتبه العسكرية، عزيمته وإصراره على تحقيق النصر، فقد تمكنت القيادة العامة للقوات المسلحة الأردنية بعد خروجها من حرب حزيران، من إعادة تشكيل وحداتها العسكرية، وتمكنت من الاعتماد على النفس في كل مراكزها القيادية، وتمكنت من استعادة معنويات جنودها مبكراً، وعملت على تدريبهم العسكري المتخصص في مواجهة المعدات العسكرية التي يستخدمها الإسرائيليون في جيشهم تلك الفترة.
     فكان لعمليات التنظيم والتخطيط العسكري السليم الذي انتهجته قيادة الفرقة الأولى، بقيادة مشهور حديثة الجازي، المكلفة بحماية الحدود على الواجهة الغربية للمملكة، من اخذ كل الاحتياطات اللازمة، لمنع أي محاولة إسرائيلية في عبور الحدود الأردنية، في ضوء ما كان يصل لقيادة الفرقة من معلومات استخبارية عسكرية، فكانت قيادة الفرقة تتابع باهتمام كل تحرك يقوم به العدو الإسرائيلي على الحدود.
     وكان لهذه التدابير والاحتياطات العسكرية الأردنية، دوراً كبيراً في التغلب على التفوق العددي لأفراد الجيش الإسرائيلي، المشاركين في المعركة ضمن وحدات المشاة، ووحدات المظليين، ووحدات الدروع، إضافة إلى الآليات والمعدات الأخرى التي تخدم تحركات الجيش الإسرائيلي العسكرية على أرض المعركة، وساعدت هذه التدابير في الحد من الخسائر الناجمة عن التفوق الجوي الذي كان يتميز به الجيش الإسرائيلي.
      فكان الفكر العسكري الأردني الذي اعتمد في هذه المعركة على قيادته الوطنية، بعد تخلصه من قيود القيادة العسكرية العربية الموحدة على إرادته، والتي كانت مسيطرة على قيادة الجبهات العسكرية في حرب حزيران 1967، فأصبح القائد العسكري الأردني قادراً على صناعة النصر في المعركة، التي لم تمهله طويلاً، فقد جاءت معركة الكرامة بعد تسعة أشهر من هزيمة القوات العربية في حرب حزيران 1967، وكان هذا النصر في معركة الكرامة قد تحقق للأردنيين بذات الجنود الذين هزموا تحت القيادة العربية الموحدة في حزيران 1967، وبذات العدد والآليات العسكرية، وبذات السلاح، لكن هذه المرة حققوا النصر لأنهم اعتمدوا على الذات، وما توفر بأيديهم من إمكانيات مادية، ولم يلتفتوا لمن حولهم، ليقدم لهم معونة مالية، أو يقدم لهم معدات حربية.
     وتمكنت الإرادة العسكرية للقوات المسلحة الأردنية، من كسر الإرادة العسكرية الإسرائيلية، وجعلت مطلب الجيش الإسرائيلي في وقف إطلاق النار يصل بواسطة سياسييهم من مجلس الأمن، فجاء القرار السياسي الأردني يدعم التحركات العسكرية للقوات المسلحة الباسلة على أرض المعركة، برفض طلب وقف إطلاق النار، ما لم يخرج كل الجنود الإسرائيليين من الأراضي الأردنية.
     كانت معركة الكرامة معركة القائد العسكري الأردني، وكانت معركة الضباط الأردنيين، وكانت معركة ضباط الصف والأفراد البواسل في القوات المسلحة الأردنية، وكانت معركة الأردني العروبي. نعم يؤكد التاريخ أنها كانت حرب دروع في العرف العسكري، لأنها اعتمدت بشكل مباشر على الدبابات والمدافع المستخدمة من كلا الطرفين، فكانت حرباً ضروساً بين جيشين نظاميين، ويؤكد التاريخ أيضاً أنها كانت حرباً بالسلاح الأبيض، عندما دخلت القوات الصهيونية بلدة الشونة، وبلدة الكرامة.
     خمسون عاماً مضت على تلك المعركة الخالدة، ولا زالت ذكراها حيه في نفوسنا، وأصبحت هذه المعركة مجداً تتوج به انجازات قواتنا المسلحة، ومثالاً يحتذى لضباط وأفراد القوات المسلحة الأردنية، في قوة العزيمة، وصلابة الإرادة، والتفوق الفكري العسكري الأردني.

ورطة الفقيه وخياراته

ورطة الفقيه وخياراته

 خلال فترة السبع سنوات الماضية، والتي يمكن التوقيت لبدايتها مع اندلاع الحركة الشعبية العربية المناهضة لسياسات الحكام والحكومات في العديد من الدول العربية، والتي أُطلق عليها تيمناً اسم الربيع العربي، توسع الخطاب الديني المؤيد لدعائم السلطة، وأصدر الفتاوى القطعية التي تحرم مناهضة السلطة، أو التجمهر الاحتجاجي، واعتباره عصيان، وخروج على شرعية الحاكم، ومن أسباب الفساد في الأرض.

      وكان النصيب الأكبر لهذه الفتاوى يستمد أصول مادته الشرعية من الفقه الحنبلي، الذي يتبناه مشايخ وفقهاء الوهابية، حيث تكوّن منه الإطار الأساسي لدراساتهم الدينية، وفقههم الواقعي، وكانت انطلاقة شيوخ وفقهاء الوهابية ردة فعل وانعكاس كامل للمطالب والمشاعر الشعبية العربية، التي عاشت واقعاً مريراً وأحوالاً سياسية سيئة، بفعل بذور الخوف المتجذره في أعماق النفوس، نتيجة ممارسة السلطة المطلقة، والقمع الأمني، الذي تسلح به الزعماء والقوى التنفيذية في دول العالم العربي والإسلامي.

      فكانت شرارة الربيع العربي مصدر القلق والخوف عند كثير من الأنظمة العربية الحاكمة، فاجتهدت في مواجهتها بكل طاقاتها، لكسر اندفاعها، وإظهار نتائجها بصورة سلبية، لتكون أداة دعاية قوية في يد السلطة، ليبرهنوا للفقهاء الذين يتخذون فتاواهم الشرعية وفق التكييف الذي يصدر من بطانة السلطة التي تتمتع بمكاسب ومكانه خاصة، وتبذل غاية جهدها للمحافظة عليها، وبذلك استطاعوا أن يستجروا الفقهاء للدفاع عنهم، والحفاظ على مصالحهم ومكاسبهم الخاصة، من خلال فتاواهم التي تحرم التظاهرات والوقفات الاحتجاجية على المواطنين.

       وبعد استقرار الأمور ورجوع الناس لثوب الخوف، أخرجت السلطات من جعبتها مشاريعها في تحديث منهج سير الأمة وسلوكياتها، وأعادت تقييم مواقفها وثوابتها السياسية في المنطقة، بدون الالتفات للمعايير الشرعية في ضبط الأخلاق والسلوكيات، وبذلك أصبح الفقيه الحنبلي في حالة صدمة، فلا يمكنه الإفتاء بعكس ما أفتى بالأمس، ولا بإمكانه التأثير في مشاعر وسلوكيات الفرد الذي كان يقف بالأمس عكس رؤيته وطموحاته المشروعة.

     والسؤال المطروح اليوم في ظل التغيرات التي تعيشها المنطقة، والطريق الجديد الذي تسير به، هل يستطيع أصحاب الفضيلة الفقهاء والمشايخ ــ الوهابيين تحديداً ــ من إصدار فتاوى يعبرون بها عن سخطهم على مستجدات الأمور؟ في الفترة التي باتت الثقة لدى العامة في أن موافقة الفتوى لوجهة نظر السلطة تطغى على كل الاعتبارات الشرعية، التي يتمثلها أصحاب الفضيلة الفقهاء.